نظرية الصادق (عليه السلام) بشأن البيئة
لم يعرف عصر الإمام الصادق (عليه السلام) من الصناعات إلا ما كان يدويا تقليديا، ولم تكن الصناعة الحديثة قد عرفت في ذلك الحين، وكانت عملية صهر الحديد والفولاذ تتم داخل أوان كروية صغيرة على نار الحطب، وهذا لا يخلق مشكلة خاصة بتلوث البيئة.
وحتى لو استخدمت في صهر الحديد والفولاذ كميات من الفحم الحجري بدلا من الحطب فإن حجم هذه العملية لم يكن بالقدر الذي يؤثر في تلويث البيئة.
وعندما شرعت ألمانيا الغربية وفرنسا وبريطانيا في إنتاج الحديد والفولاذ في مطلع القرن الثامن عشر الميلادي، ثم تلتها دول أوروبية أخرى، لم تكن هناك شكوى من تلوث البيئة بفعل هذه المصانع التي كانت تستخدم الفحم الحجري في صهر المعادن، والتي كان دخانها يتصاعد من المداخن طوال العام دون توقف. فإذا كانت هذه الدول لم تشك من التلوث، ولديها صناعة ضخمة للحديد والفولاذ وقودها الفحم الحجري، فكيف وعصر الصادق (عليه السلام) الذي لم يعرف هذه المصانع الضخمة أصلا ولا عرف حتى الفحم الحجري؟ ومع ذلك، فقد كان الإمام بعيد النظر نافذ الفكر، فقال ـ وكأنه يرى العالم في القرن العشرين وقد ضج بالشكوى من تلوث البيئةـ إن على الإنسان ألا يلوث ما حوله لكي لا يجعل الحياة شاقة له ولغيره. ولم يعن العالم بموضوع البيئة إلا من نحو30 سنة عندما ألقيت القنبلة الذرية الأولى على اليابان ولوث إشعاعها المنطقة المحيطة بمكان الانفجار، وصارت أرواح الناس مهددة بأشد المخاطر، ولم يكن هذا الانفجار هو الانفجار الوحيد الذي حدث في العالم، بل إن الدول الصناعية الأخرى اللاهثة وراء حيازة السلاح النووي، قامت بدورها بإجراء انفجارات ذرية في الجو والبحر والبر، وما زالت تجري التجارب على هذا السلاح وغيره من أسلحة التدمير الشاملة. ومع انتشار مصانع الطاقة الذرية، وما يتخلف عنها من نفايات سامة، تلوثت البيئة تلوثا بعيد المخاطر بفعل المواد المصنعة.
ولعبت المصانع الضخمة في أوروبا وأمريكا دورا كبيرا في تلويث مياه الأنهار والبيئة، لأنها كانت تلقي بنفاياتها في الأنهار الجارية، مثل نهر الرون في أوروبا الغربية، فقتلت الأسماك وغيرها من الحيوانات التي كانت تعيش في مياهه، وتعرضت بحيرات المياه العذبة في أمريكا الشمالية لمصير مماثل، والمحيطات نفسها باتت متعرضة لمخاطر هذا التلوث، سواء بفعل المواد المشعة التي تدفن نفاياتها فيها، أو بفعل النفط الذي تقذفه السفن أو يتدفق من ناقلات النفط الغارقة، وصارت العوالق البحرية (البلانكتون) التي تعيش في المحيطات معرضة للفناء، لا سيما وهي تعيش قريبا من اليابسة.
ومن فوائد هذه العوالق البحرية أنها تولد حوالي90 في المئة من الأوكسجين المنتشر في الأرض، وإن فتك بها التلوث، هبطت نسبة الأوكسجين إلى10%، وهو ما لا يفي بحاجات التنفس للإنسان والحيوان والنبات، مما يهدد الحياة نفسها، وينذر بانقراض نسل الحيوان والنبات.
وهذه النتيجة ليست مجرد نظرية علمية تحتاج إلى الإثبات، وإنما هي واقع فعلي. فبسب تلوث المحيطات يتناقص عدد العوالق البحرية في كل سنة، وسينخفض عددها إلى النصف بعد خمسين عاما، مع ما يترتب على ذلك من انخفاض الأوكسجين في الأرض بنسبة مماثلة.
ومعنى هذا، أن الطفل الذي يولد اليوم، والذي تكتب له الحياة إلى أن يبلغ الخمسين من عمره، سيتنفس وقتذاك وكأنه يتسلق جبال الهملايا دون الاستعانة بجهاز أوكسجين أو كأنه يعاني من اختناق أو ذبحة صدرية، وهذا ينطبق أيضا على الحيوانات.
وإذا رغب امرؤ بعد خمسين سنة في إشعال عود ثقاب أو موقد الطهي، لوجد صعوبة في ذلك لعدم توافر القدر الكافي من الأوكسجين في الهواء، هذه حقيقة مرة وليست بخرافة.
ويقول العالم الفيزيائي اسحق ازيموف (اسحق عظيم أوف) إن أمراض الذبحة الصدرية تضاعفت في أمريكا ثلاثمائة مرة منذ عام1950، وهو يعزو ذلك إلى انخفاض كمية الأوكسجين في جو الأرض نتيجة لتناقص العوالق البحرية في المحيطات.
ويتكهن هذا العالم الفيزيائي بانقراض الأرض بعد مائة عام إذا استمر هذا الوضع، تنقرض أيضا الحيوانات التي تعيش في البحار والمحيطات، لأنها تحتاج بدورها إلى الأوكسجين ولو عاشت في عمق الأعماق.
ومما يذكر أن السفن المبحرة من غرب أفريقيا متجهة إلى أمريكا الجنوبية تمر بمنطقة واسعة تقدر بحوالي ألفي كيلو متر مربع (2000)، تتجمع فيها النفايات ومواد النفط، وتظل طافية، فلا يبتلعها الماء، ولا تجذبها اليابسة. وقد تكونت هذه (المزبلة) البحريةـ وما هي بالوحيدة في العالم ـ بفعل تيارات الماء والرياح. وهناك (مزبلة) أخرى بالقرب من جزيرة غوام في المحيط الهندي، حيث تحتفظ أمريكا بقاعدة بحرية جوية كبيرة. وتشمل هذه (المزبلة) مساحة عريضة تقدر بآلاف الكيلو مترات المربعة، وبسببها تم الفتك بحياة جميع العوالق البحرية (البلانكتون) في هذه المنطقة.
ومعنى هذا أن تلوث المحيطات والبحار يعرض الإنسان خطر أشد من الخطر الناشئ عن تلوث اليابسة وعن الغبار النووي. ومعروف أن هناك ما يسمى ب (ميزان الرعب)، وبمقتضاه ينشأ نوع من التعادل أو التوازن بين الدول الحائزة للسلاح النووي، فتمتنع دولة ما عن استخدمه خوفا من أن تستخدمه ضدها دولة أخرى، ولكن إلى متى يستمر هذا التوازن، وهل يظل قائما إلى قرن آخر من الزمان؟ وهناك قذائف أخرى للتدمير الشامل لم تستخدم في الحرب العالمية وقذائف (دم دم) التي تنفجر في جسم الإنسان وفي الهدف معا، وهناك غيرها من الأسلحة الكيميائية.
والمؤكد أن تلوث المحيطات بهذه السرعة يهدد حياة البشر، بل يقضي عليها وعلى حياة الكائنات البحرية الأخرى. فإن استمر هذا الوضع خمسين سنة، واجه الإنسان مشقة كبرى في استنشاق الهواء نظرا لعدم توافر القدر الكافي من الأوكسجين، وأصبح حاله كحال من وقع في قبضة شرير يبتغي إزهاق روحه بكلتي يديه خنقا.
وطبيعي أن الإنسان الذي يشق عليه التنفس لن يستطيع إنجاز أي عمل أو القيام بشيء نافع، كما هو شأن إنساننا اليوم، فيقل إنتاجه وتضيق دائرة معارفه، ويتصرف ببطء نتيجة للقصور الذي يعتري خلايا المخ، ولنا أن نتصور معلما أو طالبا في قاعة الدرس يعانيان ضيقا في التنفس، فكيف للأول أو يشرح دروسه وللثاني أن يستوعبها؟ وتتكرر هذه المشكلة عينها مع المزارع في حقله والعامل في مصنعه، وهلم جرا.
وقد أجرى علماء جامعة (هارفارد) الأمريكية تجارب على الأرانب لمعرفة التطورات التي تطرأ عليها متى قلت كمية الأوكسجين في الجو الذي تعيش فيه، فتبينوا أن عجز الأوكسجين عن الوصول إلى خلايا المخ بالقدر الكافي يقلل من كفاءته ونشاطه الطبيعيين، ويجعله يقصر في أداء وظيفته المعتادة وهي إصدار الأوامر إلى سائر أعضاء الجسم، لتستجيب له على الفور.
ولكي ندرك إلى أي مدى يتأثر الإنسان في حياته اليومية بعدم استنشاق القدر الكافي من الأوكسجين ـ وهو الأمر الذي سيحدث بعد خمسين عاما إذا ما انقرض قسم كبير من العوالق البحرية التي تعيش في المحيطات، كما قدمنا ـ فلنتصور حالة عامل فني في مصنع للسيارات يريد استخدام مفك، وهي عملية تتم اليوم بتلقائية سريعة لتنبه خلايا الذهن. ولكن الذي يقل حظه من الأوكسجين يصاب بخمول في الذهن، فيتأخر العقل في إصدار أوامره إلى اليد لتناول المفك، وتتأخر اليد في أداء الوظيفة المطلوبة منها، وهكذا تستغرق هذه العملية وقتا أطول مما تستغرقه في الوقت الحالي. فإن أراد سائق سيارة الحد من سرعتها لتلافي حادثة في الطريق، أدى بطء العقل في إصدار أوامره إلى القدم للضغط على الفرملة إلى الإجهاز على حياة الشخص الذي رغب السائق في تفادي إصابته.
ونفس الشيء ينطبق على الطيار الذي يهم بالإقلاع من مطار قاصدا مدينة بعيدة. فإذا تأخر المخ في إصدار أوامره إلى الأعصاب لتحرك الآلات الخاصة بالإقلاع، ولو للحظات، لأدى ذلك إلى خلل في عملية قيادة الطائرة، ينجم عنه أوخم العواقب، كانفجار الطائرة أو ارتطامها ومقتل كل من عليها، بما فيهم قائدها.
وكذلك فإن قلة وصول الأوكسجين إلى جسم الإنسان من شأنها التأثير لا في كفاءة خلايا المخ وحدها، بل في سائر الأعصاب أو الأعضاء أيضا، وكلها تتلقى أوامرها من المخ، فتعجز الأذن والعين وسائر الحواس عن القيام بوظائفها بالكفاءة السابقة، كما تفقد الذاكرة قدرتها على تسجيل الأحداث واختزانها، وقل نفس الشيء عن الوظائف الحيوية جميعا.
ومن عوامل تلوث البيئة المواد المشعة التي تتخلف عن محطات توليد الطاقة النووية، وقوامها نفايات ناتجة عن عملية شطر نوى ذرات اليورانيوم والبلوتونيوم، وعن توليد الطاقة النووية بصورة مستمرة، ناهيك عن أن هذه المحطات النووية هي في حد ذاتها خطر داهم يهدد البيئة بالتلوث.
ومع أن المتبع عادة عند بناء محطات الطاقة النووية مراعاة اتخاذ جميع التدابير الكفيلة بمنع تسرب المواد النووية الخطرة أو انفجار المستودعات التي يحتفظ فيها بهذه المواد، فإن الخطر ماثل دائما في احتمال انفجار مستودع الركام النووي (وهو المستودع الذي يحتفظ فيه باليورانيوم والبلوتونيوم بالإضافة إلى الجرافيت) والذي يمد محطات توليد الطاقة والحرارة بالوقود النووي اللازم لهذه العملية.
ولو حدث مثلا أن انفجر مستودع الركام النووي لمحطة توليد الكهرباء بالطاقة النووية الواقعة في جنوب بريطانيا، لتلوثت البيئة بالإشعاع المميت على مسافة مائة ميل (160 كيلو مترا)، ولانعدمت الحياة تماما في هذه المنطقة ومات كل ما فيها من البشر والحيوان والنبات، وجفت الأنهر والبحيرات، ولأدت الحرارة الشديدة الناتجة عن هذا الانفجار إلى هدم العمارات والمباني الواقعة في دائرة قطرها 50 ميلا حول المحطة.
هذا مجرد احتمال، ولم يحدث شيء منه حتى الآن في محطات توليد الكهرباء بالطاقة النووية، ولكن هذا الانفجار يصيح حتميا إذا ما وقع خلل في (الفرامل) المتحكمة في انطلاق الطاقة النووية (وتتمثل هذه الفرامل في الوقت الحالي في مادة الجرافيت) أو ما أشرفت هذه المادة على النفاد.
والمأمول ألا تتعرض أي دولة من الدول الحائزة للطاقة النووية لمثل هذا الحادث المهلك.
وثمة مشكلة هامة تواجهها الدول الحائزة للطاقة النووية تتمثل في كيفية التخلص من النفايات الذرية المشعة الشديدة الخطرة. وعلماء الذرة والفيزياء مشغولون بالتفكير في اختيار مناطق مأمونة يدفنون فيها هذه المواد دفعا لشرورها وحماية للبيئة من التلوث.
وقد اتجه تفكيرهم في بادئ الأمر إلى دفن النفايات في أعماق المحيطات بعد وضعها في أوان محكمة آمنة، ولكنهم تبينوا أن الضغط الشديد لمياه المحيطات على النفايات المدفونة في القاع قد ينتهي به الأمر إلى تحطيم هذه الأواني، فتنتشر المواد المشعة في الماء، وتهدد كل مظهر من مظاهر الحياة في المحيطات، من أسماك وحيوانات أخرى وعوالق بحرية (بلانكتون).
واضطر العلماء، تلقاء هذا الاحتمال المنذر بأشد المخاطر، إلى البحث عن مدافن أخرى مأمونة للنفايات الذرية، واتجه التفكير بعد رحلة الإنسان إلى القمر إلى دفن هذه النفايات على سطحه، ولكن هذا الأمر لم يتحقق لاعتبارات ثلاثة هي:
أولاً: أن المحيطات النووية المولدة للطاقة الكهربائية مملوكة في دول أوروبا وأمريكا لمؤسسات أهلية غير حكومية، وهي مؤسسات تفتقر إلى الإمكانيات المالية الهائلة اللازمة لنقل هذه النفايات إلى القمر والتخلص منها بدفنها هناك، (وتستثنى من ذلك المراكز النووية في الاتحاد السوفيتي، والدول الشيوعية الأخرى لأنها مملوكة للدولة).
ثانياً: إنه ليس ثمة سبيل للاطمئنان إلى أن الصواريخ الحاملة للنفايات ستصل سالمة إلى سطح القمر، دون أن تتعرض لحادث يفجرها في الهواء أو يسقطها على الأرض قبل انفلاتها من نطاق الجاذبية الأرضية، وهو يؤدي إلى تلوث الجو والأرض بصورة مباشرة.
ثالثاً: إن من شأن هذا الأمر نقل التلوث إلى القمر نفسه، ولئن لم تعرف عواقب هذا التلوث على سكان أرضنا، فالمؤكد أن تلويث القمر من شأنه إقفال الباب أمام الإنسان في ما لو حاول استثمار القمر في المستقبل، لأن ارتفاع درجة الحرارة ارتفاعا شديدا في القمر في خلال النهار مع ضعف الجاذبية فيه يؤديان إلى انتشار المواد المشعة السامة وتلوث سطح القمر بأسره فلا يغدو صالحا لأي حياة، دع عنك أن عدم هواء في القمر يجعله غير صالح لحياة البشر عليه.
وهكذا انصرف الإنسان عن التفكير في دفن هذه النفايات الذرية الخطرة في مكان مأمون ناء عن البشر دفعا لشرورها المؤكدة المتمثلة في إشعاعاتها الخطرة.
ألم يكن الأمام الصادق (عليه السلام) بصيرا بالعواقب عندما نصح الإنسان بعدم تلويث بيئته دفعا للأضرار والمشكلات التي يتعرض لها؟
ولننظر إلى مثل اليابان، لنرى فيه صدق نظرية الصادق.
ومعروف أن اليابان خسرت الحرب العالمية الثانية مع دول المحور، وخرجت منها مهيضة الجناح كسيرة الاقتصاد حتى أن معدل دخل الفرد لم يكن يزيد في السنة (أي في 12 شهرا) عن ثلاثين دولارا، ولكن اليابان استطاعت بإنهاض أوضاعها الاقتصادية أن ترفع دخل الفرد حتى وصل معدله في عام 1972 إلى خمسة آلاف وخمسمائة دولار أمريكي في السنة.
ولم تلبث اليابان أن أخذت تغزو العالم بإنتاجها الصناعي الذي توسعت فيه توسعا كبيرا، حتى استطاعت أن تنافس الصناعة الأمريكية، في عقر دارها. ولنذكر مثالا واحدا، هو أن الولايات المتحدة التي تتصدر الدول الصناعية في إنتاج الدراجات البخارية قد صارت تشتري 90% من جميع الدراجات المستخدمة فيها من اليابان، فبين كل عشرين ألف دراجة بخارية مباعة في أمريكا 18 ألف دراجة صنعت في اليابان.
ولنذكر مثالا ثانيا وهو أن ألمانيا الغربية التي تتقدم دول العالم الصناعي في صنع أجهزة الراديو والتلفزيون قد أصبحت بدورها هدفا لغزو الصناعة اليابانية حتى أصبح 99% من أجهزة الترانزستور المباعة في ألمانيا يابانية الصنع.
وها نحن نرى اليابان متقدمة في صناعات السيارات والكمبيوتر والأقمشة المصنوعة من الألياف الصناعية (السليلوز) وفي صنع السفن وأجهزة الراديو والتلفزيون وأجهزة التصوير والدراجات النارية وهام جرا، ولعلها تحتل المنزلة الثانية بعد أمريكا في هذه الصناعات.
وبرغم كل هذا، وبرغم تقدم اليابان الصناعي فيها ارتفاعا كبيرا، فقد أهملت أسباب الوقاية من تلوث البيئة، وأصبحت اليوم تعاني من مشكلات التلوث ما يهدد سلامة أهلها، وما لا مثيل له في البلدان الصناعية الأخرى التي وقت نفسها من أسباب التلوث.
وأدى تلوث البيئة في اليابان إلى أمراض خطيرة لم يعرفها الطب منذ أيام أبي الطب (الحكيم ابقراط اليوناني) وإلى هذا اليوم، ومعروف أن ابقراط اعد إحصاءا للأمراض والأوبئة التي تصيب البشر سمى فيه أربعين ألف مرض، وأوضح آثارها وطرق علاجها، ولكن الأمراض التي ظهرت في اليابان نتيجة لتلوث البيئة لم يرد لهل ذكر ضمن الأمراض التي عرفتها البشرية من قبل.
ومن جملة هذه الأمراض النادرة مرض يسميه اليابانيون (إيتائي إيتائي)(1) لأن المصاب به يتألم ويئن هذه التأوهات.
ويعزى سبب هذا المرض إلى انتقال كمية كبيرة من مادة (الكادميوم إلى جسم البشري، وهي مادة تنتشر حول المصانع وتلوث الأرض والماء والهواء).
ومن أمارات هذا المرض الإحساس بألم شديد في جميع عظام الجسم، ومن عواقبه إصابة العظم بالضعف العام الذي يجعله هشا قابلا للكسر بسهولة، ولا وجود لهذا المرض النادر من أمراض العظام إلا في اليابان، صحيح أن الطب في تاريخه القديم وإلى يومنا هذا قد عرف أنواعا من أمراض تحجر العظام في الإنسان، فتغدو هشة قابلة للكسر، إلا أن النوع الياباني الذي يسمونه (إيتائي إيتائي) هو نوع فريد من هذه المجموعة من الأمراض.
وقد ظهر مرض آخر اشد خطورة من (إيتائي إيتائي) في جزيرة كيوشو، وهي إحدى الجزر الكبيرة في اليابان (البالغ عددها 400 جزيرة) فأودى بحياة عدد كبير من سكان هذه الجزيرة، وما زال خطره ماثلا يهدد غيرهم من السكان.
ومن آثار هذا المرض إضعاف البصر إلى درجة العمى، وإضعاف الأعصاب والعضلات إلى درجة تحللها وإفقادها لكل قدرة. ويعزى السبب في ظهور هذا المرض إلى انتشار المواد الزئبقية في الماء والهواء بالقرب من المصانع التي تستخدم عنصر الزئبق، وانتقالها إلى الإنسان عن طريق الماء والهواء.
ويعرف الطب القديم أن الزئبق يؤدي إلى العمى، وكان الأطباء في القرنين السابع عشر والثامن عشر يستخدمونه في علاج مرض الزهري، فلما تبينوا أن لاستخدامه موضعيا آثارا جانبية أخرى، كفوا عن التوسل به في العلاج، باستثناء بعض حالات الأمراض الجلدية أو الاحتراق، ومع مراعاة قدر كبير من الاحتياط.
وإلى جانب هذين المرضين الجديدين اللذين عرفتهما اليابان، تزايدت أمراض ضيق التنفس والاختناق نتيجة لتلوث البيئة أيضا.
وإذا كان العالم الفيزيائي اسحق ازيموف قد عزا أسباب مرض ضيق التنفس في أمريكا إلى قلة الأوكسجين المتوافر في الهواء ـ كما سبق أن ذكرنا ـ فإن المرض نفسه قد انتشر في اليابان نتيجة لتلوث الجو بفعل الغازات والأدخنة المتصاعدة من المصانع.
واليابانيون شعب معروف بحبه لجمال الطبيعة وتفننه في تنسيق الزهور والحدائق، وباعتقاده بأن المناظر الطبيعة في اليابان هي أجمل المناظر في العالم، ولكنه يعترف اليوم بأن تلوث البيئة قد أضر بالطبيعة ضررا شديدا وأفقدها مظاهر جمالها وحسنها.
وقد أشرنا في ما سبق إلى أن الشعب الياباني قد استطاع في الثلاثين سنة الأخيرة (أي منذ انتهاء الحرب العالمية وإلى عام1973) أن ينهض بحياته الصناعية والاقتصادية على الرغم من افتقاره إلى الثروات الطبيعة ومنابع الطاقة المتوافرة في الدول الأخرى، وإنه استطاع بهذا الجهد أن يصبح ثالث شعوب العالم غنى بعد الولايات المتحدة وروسيا دون أن يعتمد في ذلك على نفط أو حديد أو فحم حجري. ولكن الصناعة اليابانية التي نجحت في غزو العالم، تسببت في اليابان نفسها في تلويث البيئة وفي قيام مشكلات كثيرة، مما جعل اليابانيين يفكرون في عزل المجمعات الصناعية عن المدن والمناطق الآهلة بالسكان، وقد وضعوا فعلا الخطط اللازمة لتحقيق ذلك في موعد غايته عام 2000م.
وتتحصل الخطة اليابانية في إنشاء مدن ومجتمعات حديثة لا يزيد عدد سكانها عن مئتي ألف نسمة، وتزويدها بجميع المرافق والتسهيلات العصرية، وتقام إلى جانب هذه المدن وحدات صناعية تتخذ فيها جميع الاحتياطات اللازمة لوقاية البيئة من آثار التلوث بالغاز أو بالنفايات المتخلفة عن المصانع، وذلك بتجهيز مداخنها ومنافذ نفاياتها بصاف معدة خصيصا لهذا الغرض.
لقد انتبه إنسان اليوم إلى خطورة التلوث على البيئة، سواء أكان موضعه الأرض أو المياه في البحار أو الأنهار، ولكن عبقرية الإمام الصادق (عليه السلام) هدته قبل ألف ومائتي عام إلى خطورة هذا التلوث، فنصح القوم بألا يعمدوا إلى تلويث الوسط الذي يعيش فيه الناس، أي تلويث البيئة بلغة هذا العصر. ومن عجب أن الآريين القدامى فطنوا إلى أهمية اجتناب تلويث الأرض والماء في وقت لم تكن لديهم فيه مصانع أو معامل، فكيف تنبهوا إلى هذا الأمر، ومن أين جاءتهم الفكرة؟
يذهب بعض علماء الاجتماع إلى أن الثقافة التي تحصلت للبشرية هي تراث لمدينة عظيمة قديمة كانت على وجه الأرض ثمَّ تدهورت لأسباب شتى، وإن الإنسان قد اكتسب الشيء الكثير من هذا التراث الحضاري، ومن جملته اهتمامه بالأرض والهواء وحرصه على عدم تلويثهما.
وقد اهتمت الشعوب الآرية، التي يسميها الأوروبيون بالشعوب الهنديةـ الأوروبية، بالمحافظة على البيئة واجتناب كل ما يلوثها منذ زمن بعيد.
ويقول الباحث الفرنسي (ماريجان موله) أن الشعوب الهندية الأوروبية هي أول الشعوب التي قامت بمد مجاري الفضلات تحت الأرض حرصا على عدم تلويث سطحها، وحدا بهم وسواسهم من تلويث الأرض إلى الامتناع عن دفن الموتى فيها، وإحراق جثثهم في مكان ناء عن العمران، أو وضع موتاهم في مكان مرتفع على الجبال أو التلال أو فوق جدران يبنونها، وتركها إلى أن تجف فلا يبق منها إلا العظام التي توضع بعد ذلك في كهف أو غرفة.
ولم يعرف دفن الموتى عند الشعوب الآرية إلا في فترات تاريخية متأخرة محاكاة لأقوام أخرى(2)، وبصورة خاصة في أزمنة الحروب أو عند ظهور الأوبئة المعدية.
وعندما غزا الاسكندر المقدوني الهند، رأى أن الهنود يحرقون أجساد القتلى، فدهش من هذا التصرف واستفسر منهم عن أسبابه، ثم كتب بذلك تقريرا إلى أستاذه أرسطو، فأصبحت رسالته وثيقة تاريخية هامة تصور عادات الهند وتقاليدها في الحرص على طهارة الأرض ونقائها. ومما جاء في هذه الرسالة قوله: (سألت الهنود: لم تحرقون جثث الموتى ولا تدفنونها؟
فأجابوا: إذا دفناها، تلوثت الأرض، وهو ما يتعارض مع تقاليد ديننا. ثم سألتهم: إذا كان الموتى يلوثون الأرض، فلم دفنتم جثث الجنود وأحرقتم جثث الضباط.
فأجابوا: إن أجساد الجنود لا تنجس الأرض، على النقيض من جثث الضباط والأمراء التي تنجسها بشدة).
وأضاف الاسكندر إلى هذا قوله في الوثيقة عينها: (أحسست بأنهم إذا دفنوا الضباط والأمراء، لم يؤدوا التكريم والاحترام بالقدر الكافي والمناسب).
وقد اهتم أرسطو بهذه الرسالة اهتماما جعله يدرجها في كتابه (الاورغانون)، وهو الكتاب الذي تناول فيه مسائل المنطق، والذي تسائل فيه في معرض الحديث عن الموت عما إذا كان من الأفضل إحراق جثث الموتى كما يفعل الهنود.
ولقد كان من ديدن الشعوب الهندية الأوروبية أن تحرص على عدم تلويث البيئة في وقت لم تكن قضية البيئة قد أصبحت الشغل الشاغل لدول العالم جميعا، ولم يكن تعداد سكان أي مدينة في العالم يزيد على مائة ألف نسمة. ولئن لم تتوافر لدينا أي معلومات وافية عن عدد سكان مجن فارس والهند في القديم، فقد سجلت لنل كتب التاريخ أن مدينة منف. وهي العاصمة المصرية القديمة قبل الميلاد بألفي عام كان عدد سكانها مائة ألف، وكان عمر هذه المدينة وقتئذ ألف سنة.
ويقول الصينيون إن مدينة بكين كان يسكنها في عام (2000ق م) ألفين قبل الميلاد خمسمائة ألف نسمة، ولكن هذا القول يفتقر إلى أي سند تاريخي، وليس في تاريخ الصين آثار تدل على صحته، وطبيعي أن هذا الرقم على فرض صحته لا يعد شيئا بالقياس إلى عدد السكان في عواصم العالم ومدنه الكبيرة اليوم.
وأياً كان الأمر، فإن الفيلسوف الأخلاقي الصيني الشهير (كونفوشيوس) قد أمر إتباعه بالنظافة وعدم تلويث البيئة، وكنفوشيوس قد ولد في عام 551 وتوفي في عام 479 قبل الميلاد، وكانت الشعوب الهنديةـ الأوروبية قد عاشت قبله بمئات من الحقب، بل بآلاف منها. ولبس من المعروف على وجه اليقين متى بدأت هجرة الشعوب الآرية إلى الشرق، فمن المؤرخين من يقول إن هجرتهم بدأت قبل الميلاد بثلاثة آلاف سنة، ومنهم من يقول إنها بدأت قبله ألفين من السنين، ولكن هذه القديرات من الحدس أو التخمين، والفرق بينها لا يتجاوز خمسين سنة أو مائة.
ومهما يكن الأمر، فعندما أسدى كونفوشيوس نصائحه ومواعظه تلك لأتباعه، كان قد مر على استيطان الشعوب الهنديةـ الأوروبية في هذه الهضبة وقت طويل، ولا يستبعد أن يكون الزعيم الديني، الذي عاش عمره بين الشعوب الآريية. قد تعلم منها ونقل من تقاليدها احترامها للأرض والبيئة وحرصها على العيش في وسط طاهر غير نجيس.
ولم تصبح قضية منع التلوث ـكما ذكرناـ قضية عالمية إلا بعد الحرب العالمية الثانية، وهي اليوم قضية تستأثر بعناية الدول والهيئات الدولية باعتبارها قضية ملحة لا تقبل الإرجاء والتأجيل.