قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الحجرات:10)، وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}(آل عمران:103) صدق الله العلي العظيم.
ضرورة توثيق الارتباط العقدي.
تمثل الأخوة في الإسلام دِعامة من دعائم الدين، وركناً وثيقاً بُني عليه الكثير من المباني التي اهتم بها الشارع، فهي لُحمة أقوى من لحُمة النسب، وقد أكد عليها الشارع في الآيات والروايات لما يترتب عليها من بناء المجتمع الصالح، وتلافٍ لكثير من السلبيات التي إذا لم يُدركها المسلم فإنه سيقع فيها لا محالة، من هنا نجد التأكيد في القرآن الكريم عبر هاتين الآيتين اللتين ذكرناهما، وغيرهما من الآيات والأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله والأئمة من أهل البيت عليهم السلام، وجميعها تؤكد على ضرورة الارتباط الوثيق بين المسلم وأخيه المسلم، حتى تكون عُرى الارتباط الأخوي أقوى من الارتباط النسبي، وذلك أنّ النسب يمثل اشتراكاً في الدم واللحم، وأما الارتباط العقدي فهو ارتباط ينبثق من المبدأ وهو الحق تبارك وتعالى، فلذا كانت عُرى الارتباط من الناحية العقدية أوثق منها من الناحية النسبية.
مجالات الارتباط الأخوي.
وفي القرآن الكريم تأكيدات متعددة تُبلور لنا العلاقة الوثيقة بين الأب وابنه ومع ذلك قد تحصل بينهما براءة كما حصل في براءة إبراهيم عليه السلام من أبيه، {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ}، أو براءة بعض من أسلم من المسلمين من آبائهم وأقربائهم، بيد أنّ الارتباط بعمقه ووثاقته من الناحية الإيمانية لا يمكن أن ينفصل، بل، وتترتب عليه آثار أُكد عليها في الشريعة، سوف نذكر بعضاً منها، ونبين أهمية الوحدة بين عموم المسلمين في المنظور الإسلامي، من خلال رباط ‹‹لا إله إلاّ الله، محمد رسول الله››، ورباط الإيمان بالقرآن الكريم إذ أنّ الروايات الواردة تشرح قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ}، مبينة أنّ الحبل هو القرآن أو الإسلام، لذا، علينا أن نهتم بهذه الآيات القرآنية ونطبق ما يريده الذكر الحكيم من لدن المسلم في وثاقة الارتباط بأخيه المسلم.
ثمار الأخوة الإسلامية.
الأخوة في النسب تأتي عبر الاشتراك من نواحٍ ثلاث: إما أخوة من الأبوين أو من أحدهما أو من الرضاعة، وكل مفردة من هذه المفردات تترتب عليها آثار تختلف عن الآثار الأخرى المترتبة على قرينتيها، بيد أنّ أعظم عُرى الارتباط في الأخوة النسبية هو الاشتراك من ناحية الأبوين، إلا أنّ آثاره المترتبة عليه أقل من الآثار المترتبة على الارتباط العقدي في الأخوة الإسلامية، إذ أنّ هذا الارتباط نتج عن الإيمان بالإله الواحد الأحد وبما أوجبه على كل مسلم من الانصياع لأوامر الشرع والانتهاء عما نهى الله تعالى عنه، وتظهر ثمرة هذا في جنبتين:
الأولى: تأثير الأخوة على المجتمع.
إنّ الغاية من الأخوة في المنظور الإسلامي هي أن يصبح المجتمع بحالة من الوئام والتعاون تَقِلُ فيه الرذائل وتكثر فيه الفضائل ويسعى المسلم إلى إسعاد أخيه المسلم، فقد ورد في الكافي للشيخ الكليني رحمه الله عن إمامنا الصادق عليه السلام: ‹‹المؤمن أخو المؤمن عينه ودليله لا يخونه ولا يظلمه ولا يغشه ولا يعده عِدةً فيُخلِفه››، وهذه الأحاديث لم ترد في مصادر المنتمين إلى أهل البيت عليهم السلام فحسب، بل وردت في مصادر المسلمين عامة بكافة مذاهبهم واتجاهاتهم الفقهية والعقدية، كما وردت تأكيدات على أهمية الارتباط بين المسلم وأخيه المسلم من ناحية ما يترتب على هذه اللحمة من آثار ذكرنا بعضها في حديث الإمام الصادق عليه السلام، وقد وردت أيضاً عن النبي صلى الله عليه وآله العشرات من الأحاديث في مصادر الفريقين تؤكد على ما ذكرناه، قال صلى الله عليه وآله في تبيان الأخوة الإسلامية في الله تعالى وما يترتب عليها، ‹‹من آخى أخاً في الله رفع الله له درجة في الجنة لا ينالها بشيء من عمله››، ولو توقفنا هنيئة عند قوله صلى الله عليه وآله: ‹‹لا ينالها بشيء من عمله›› لوجدنا أنّ النبي صلى الله عليه وآله يؤكد على أنّ العمل تترتب عليه آثار تعود إلى الإنسان شخصياًَ، أما الأخوة فآثارها تعود على المجتمع بأكمله.
الثانية: تأثير الأخوة على الفرد.
عند الحديث عن الأثر الفردي للأخوة نجد أنّ النبي صلى الله عليه وآله يقول: ‹‹مثل الأخوين إذا التقيا مثل اليدين تغسل إحداهما الأخرى، وما التقى المؤمنان قط إلاّ أفاد الله أحدهما من صاحبه››، فالمصطفى صلى الله عليه وآله يشير إلى أمرين في غاية الأهمية:
الأول: أنّ الإنسان يحتاج في مساره على كل صعيد إلى أخيه المسلم باعتبار أنّ الأخ المسلم كاليد الأخرى للمسلم؛ كما أنّ الإنسان إذا أراد أن يغسل يده لا يتمكن بسهولة ويسر دون ضم اليد الأخرى، والنبي ص يشير إلى هذا الأثر في سهولة الوصول إلى المقصد.
الثاني: التأثير الإلهي للأخوة الإيمانية. فالله تعالى يرتب عليها الآثار تباعاً، يقول صلى الله عليه وآله: ‹‹وما التقى المؤمنان قط إلاّ أفاد الله أحدهما من صاحبه››، فاللقاء الأخوي رتب الله تعالى عليه الآثار حتى إذا لم يلتفت إليه كل منهما، فهذا الأثر معنوي يرتبط بالمزج بين عوالم أخرى تختلف عن عالم المادة الذي ندرك بعض آثاره.
عوامل توثيق العلاقة الأخوية بالمجتمع.
نجد في الأحاديث التي وردت في ذكر ما جرى على أنبياء الله الصادقين مثل داوود عليه السلام الذي هو من أنبياء الله العظام، حيث خاطب الباري تعالى قائلاً: ‹‹يا ربِّ كيف لي أن يُحبني الناس كُلهم، وأَسلَم فيما بيني وبينك››، فكل إنسان يطمح إلى محبة الآخرين له، لكنه أيضاً يريد أن تكون تلك المحبة غير ضارة بعلاقته بالله تعالى، وسنذكر بعض العوامل التي تُقوي العلاقة بالآخرين:
أولاً: مداراة الناس.
في جواب الله تعالى على داوود عليه السلام قال: ‹‹يا داوود خالط الناس بأخلاقهم، وأحسن فيما بيني وبينك››، فهو تعالى يأمر هذا النبي العظيم بمداراة الناس والتعامل معهم بوئام وإيجابية، ثم يكون الإحسان والنصح وما يسدى للآخرين منطلقاً من الارتباط بالله تعالى.
ثانياً: مرونة التعامل.
يقول إمامنا الصادق عليه السلام: ‹‹ما يُقدم المؤمن على الله بعمل بعد الفرائض أحب إلى الله من أن يسع الناس بأخلاقهم››، فعندما تختلف مع أخيك المؤمن والمسلم ومع سائر الناس حتى غير المنتمين إلى الديانات الإلهية، حينها عليك بالمرونة في تعاملك معهم؛ لأنّ أفضل عرى الارتباط فيما بينك وبين الآخرين - بغض النظر عن انتمائهم الديني للإسلام أو لغيره من الأديان - أن تسعهم بدماثة أخلاقك ومرونة تعاملك، ‹‹ما يُقدم المؤمن على الله بعمل بعد الفرائض أحب إلى الله من أن يسع الناس››، وكلمة الناس تشمل المسلمين وغيرهم.
عناصر مؤثرة في الارتباط بالآخرين.
هناك آثار أكد عليها النبي صلى الله عليه وآله والأئمة من أهل البيت عليهم السلام ينبغي للمسلم أن يلحظها في ارتباطه بإخوانه المؤمنين والمسلمين، يقول إمامنا الصادق عليه السلام: ‹‹ثلاث من أتى الله بواحدة، منهن أوجب الله له الجنة:
الأولى: ‹‹الإنفاق من إقتار››، فالإنسان ينفق في سبيل الله حتى إذا كان لا يجد إلاّ القليل من المال لأنّ الإنفاق في سبيل الله يعود بالخير على ذلك المنفق بما يوصله إلى حبل لا ينقطع أبداً، يؤدي به إلى رضوان الله والدخول في جنانه.
الثاني: ‹‹والبِشرُ لجميع العالم››، فليس البِشر بمقصور على المسلم فحسب بل لمطلق الإنسان مهما كان دينه ومهما تعددت نحلته التي ينتمي إليها، فلا بد أن تتعامل معه بخلق إيجابي، وتستبشر مبتسماً إذا رأيته، وهذه دلالة على الجانب التلائمي لدى المسلم الذي فهم الشريعة بحق.
الثالث: يقول الإمام الصادق عليه السلام:
‹‹والإنصاف من نفسه››، أي يكون عادلاً في أحكامه الصادرة منه حتى إذا كانت في غير صالحه أو في غير صالح من يحب من الناس، بل تنطلق من ميزان العدل والإنصاف ليكون ذلك الحكم له دعامة يتكئ عليها وينبثق عن جذورها.
رؤية شمولية لحق المسلم على المسلم.
هناك روايات وردت عن أئمة أهل البيت عليهم السلام فيها حقوق للمسلم على أخيه المسلم وهي أعظم مما ذكرنا وسأكتفي بواحدة من تلكم الروايات التي تبين بعض الحقوق والواجبات بين المسلم وأخيه المسلم؛ حيث سأل المعلى ابن خُنيس إمامنا الصادق عليه السلام عن حق المسلم على أخيه المسلم، فقال عليه السلام: ‹‹سبع حقوق أيسر حق منها؛ أن تحب له ما تحب لنفسك، وتكره له ما تكره لنفسك، والحق الثاني: أن تجتنب سخطه، وتتبع مرضاته وتطيع أمره، والحق الثالث: تُعينه بنفسك ومالك ولسانك ويدك ورجلك، والحق الرابع: أن تكون عينه ودليله ومرآته››، فالإمام عليه السلام يريد للمسلم أن يساعد أخاه المسلم كما يستفيد من جوارحه ‹‹أن تكون عينه ودليله ومرآته والحق الخامس: أن لا تشبع ويجوع، ولا تروى ويظمأ ولا تلبس ويعرى، والحق السادس: أن يكون لك خادم وليس لأخيك خادم، فواجب أن تبعث خادمك فيغسل ثوبه ويصنع طعامه ويمهد فراشه››، فالمشاركة في مجال واسع حتى كأنه أحد أبنائك وأهل بيتك، فكما تحتاج إلى أنّ العامل لك أو الخادم يقوم بالأشياء الطبيعية التي تحتاجها فحاول أن تجعل خادمك أو عاملك ـ إذا كنت من المستطيعين ـ يُسهم في إفضاء الراحة على أخيك المسلم، ‹‹والحق السابع: يقول أن تَبُر قسمه وتجيب دعوته وتعود مريضه وتشهد جنازته وإذا علمت أنّ له حاجة تبادر إلى قضائها ولا تُلجئه أن يسألكها ولكن تبادره مبادرة›› هذه الروايات الواردة عن المصطفى صلى الله عليه وآله، والأئمة من أهل البيت عليهم السلام تؤكد وثاقة الارتباط بين المسلمين كافة بشتى شرائحهم وانتماءاتهم المذهبية، وإذا فقه المسلم هذا التوجيه والتعليم الوارد عن النبي صلى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام سيصل إلى الخير في دنياه وأخراه، وصدق الحق تبارك وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}(الحجرات:10) وأمر بالاعتصام بالقرآن الكريم والإسلام كرسالة ونظام، {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}(آل عمران:103).