بسم الله الرحمن الرحيم
تحدثنا في لقاءات سابقة عن مراحل النمو لدى الشخصية حيث بدأنا أولاً بالحديث عن مرحلة الطفولة الأولى وهي المرحلة البادئة من الولادة إلى العام السابع، وتحدثنا بعد ذلك عن المرحلة الطفولية الثانية وهي المرحلة البادئة مع العام السابع إلى العام الرابع عشر، ثم تحدثنا عن المرحلة الثالثة وهي مرحلة المراهقة وهي المرحلة البادئة مع العام الرابع عشر إلى العام الحادي والعشرين، وقلنا في حينه أن مرحلة المراهقة في التصور الإسلامي مع أنها تتسق مع التصورات الأرضية من حيث السمات التي تطبع الشخصية، إلا أن التصور الإسلامي في هذا المجال يظل ايضاً له تصوره الخاص حيال هذه المرحلة من حيث الرشد ودرجة هذا الرشد، وقد سبق أن قلنا أن الأبحاث الارضية تقرّر بأن سن الرشد أو المرحلة الراشدة تبدأ من العام الثامن عشر فصاعداً، أما في التصور الإسلامي فإن المرحلة الراشدة تبدأ مع العام الرابع عشر فصاعداً، وهذا الفرق البالغ أربع سنين في الواقع يظل متسماً بأهمية كبيرة من حيث الفارق بين التصورين الأرضي والإسلامي، وذلك بسبب ما يترتب على بلوغ مرحلة الرشد من مسؤولية في التصور الإسلامي، وهي المسؤولية التي تترتب عليها آثار العقاب والثواب في حين أن التصور الأرضي لا يرتب مسؤولياته على الشخصية إلا بعد بلوغ العام الثامن عشر.
وقلنا في حينه أيضاً أن العام الثامن عشر في التصور الإسلامي يحمل خصيصة نمائية مهمة، هي بالنسبة إلى بلوغ العقل مرحلة فائقة، ولكنا قلنا أيضاً أن تحمل المسؤولية لا يتوقف على بلوغ الشخصية مرحلة فائقة من مهاراتها الإدراكية بقدر ما يتطلب الموقف المسؤول مجرد مهارة عقلية تميز بين الخير والشر..الخ.
المهم عندما تحدثنا عن المرحلة الراشدة بدأناها بالحديث عن المراهقة وهي السنوات السبع التي يتميز فيها الراشد عن بقية سنواته بكونها سنوات تحمل طابعاً خاصاً هو الطابع الذي أشار إليه النبي(ص) حيث شبه هذه الشخصية بالوزير مقابل تشبيهه كلاً من مرحلة الطفولة الأولى بكون الطفل سيداً والمرحلة الثانية بكونه فيها عبداً حيث أن المرحلة الأولى وهي المرحلة الخاصة باللعب يكون الطفل فيها سيد الموقف لا يتحمل أي تدريب، بينما على العكس المرحلة الطفولية الثانية التي شبه النبي(ص) صاحبها بالعبد حيث العبد يتلقى الأوامر، وأما المراهق فقد شبهه النبي(ص) بالوزير حيث أن الوزير يمثل مرحلة لا هي بالمرحلة الاستقلالية التامة ولا هي بالمرحلة التابعة. بل هي مرحلة متأرجحة بين الطرفين المشار إليهما، وهذا التشبيه في الواقع ينسحب على طبيعة مرحلة المراهقة التي ألقى الإسلام عليها إضاءة كاملة كما ألقت البحوث الأرضية إضاءة كاملة عليها يمكن أن نلخصها في ظاهرتين هما أن الشخصية المراهقة تتحسس بسمتين هما: استقلال الشخصية من جانب، وتموّجات سلوكها من الجانب الآخر، ويقصد بالاستقلال أي أن الشخصية تبدأ بالتحسس بأنها كيان مستقل عن أسرتها وأما تموجاتها فالاضطراب أو التقلب أو التردد في الانتهاء إلى الموقف الحاسم الذي تختطه الشخصية لمستقبلها.
على أية حال قد انتهينا من هذا كله إلى تحديد المرحلة الراشدة بغض النظر الآن عند بدايتها المتمثلة في المراهقة البالغة سبع سنوات، بل نريد الآن أن نحدثكم عن هذه البداية أي بداية مرحلة الرشد وامتدادات هذه المرحلة إلى آخر عمر الشخصية.
ونبدأ فنحدثكم عن البداية التي تحدد مرحلة الرشد، فمع أن المشرع الإسلامي حدد هذه البداية بأنها هي العام الرابع عشر فصاعداً، ولكن لاحظتم أن ثمة فروقاً بين الشخصيات قد يكون هذا الفرق يمتد إلى عام وقد يمتد إلى عامين وقد يمتد حتى إلى ثلاثة أعوام، هذه الفوارق لأسباب لا ضرورة للحديث عنها تظل فارضة نفسها على الموقف لذلك فإن المشرع الإسلامي عندما يريد أن يحدد بداية لهذه المرحلة فإن التفاوت سيظل ملحوظاً في هذا الجانب، فلقد لاحظتم مثلاً بالنسبة إلى مرحلة الطفولة الأولى من حيث انتهاؤها ثمة تفاوتاً بين الخمس والست والسبع من السنوات، وامتداد هذا التفاوت في المرحلة الثانية من الطفولة أيضاً ونلاحظ الآن هذا التفاوت ممتداً في المرحلة الثالثة ولذلك نجد التراوح إسلامياً يتم بين العام الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر.
نبدأ الآن بتقديم النصوص المرتبطة به، ويمكننا ملاحظة هذا الجانب من التحديدات في النصوص الآتية، ومن ذلك ما نقف عنده الآن من التحديد الأول، أي التحديد الذي يضع العام الثالث عشر عاماً هو البداية لمرحلة البلوغ وذلك من خلال الإشارة إلى تحمّل المسؤولية وترتيب آثار الثواب والعقاب على ذلك.
يقول الإمام المعصوم(ع): (إذا بلغ الغلام ثلاث عشرة سنة كتبت له الحسنة وكتبت السيئة وعوقب)، لاحظ بوضوح أن النص هنا يقرر أن المرحلة البالغة هي عند بلوغ العام الثالث عشر، والدليل على ذلك كتابةالحسنة والسيئة، أي ترتيب آثار الثواب والعقاب على ذلك، ومن المعلوم أن آثار الثواب والعقاب لا تترتب إلا عندما تبلغ الشخصية مرحلة الرشد أو النضج، ولكن حيال هذا التحديد للعام الثالث عشر نجد تحديداً ثانياً وهو تحديد يؤرجح البلوغ بين العام الثالث عشر والرابع عشر وذلك من خلال الإشارة إلى عمليتي الثواب والعقاب أيضاً، يقول الإمام المعصوم(ع) وقد سئل: في كم تجري الأحكام على الصبيان؟ قال(ع): (في ثلاث عشرة وأربع عشرة).
واضح أن التحديد يرواح بين العام الثالث عشر والرابع عشر حسب التفاوت في النماء لدى الأفراد، ومن الطبيعي أيضا أن هذا التفسير هو الذي يفرض ذاته على مثل هذا التفاوت في النصوص لأن المعصوم(ع) عندما يقول إذا بلغ الغلام ثلاث عشرة سنة كتبت له الحسنة وكتبت السيئة وعوقب، هذا يعني أن هذا الفرد قد بلغ مرحلة الرشد مبكراً، وبينما نجده في التحديد الثاني أنه يراوح بين هذين الأمرين ليشير من خلال هذه المراوحة إلى أن بعض الأطفال يبلغون ذلك في العام الثالث عشر نفسه الذي أشارت إليه الرواية السابقة، وبين العام الرابع عشر الذي أشارت إليه الرواية التي قرأناها عليكم الآن، ولكنكم ستلاحظون ثمة روايات أو نصوص تحدد العام الخامس عشر معياراً لهذا الجانب.
يقول الإمام المعصوم(ع): (الغلام لا يجوز أمره في البيع والشراء ولا يخرج من اليتم حتى يبلغ خمس عشرة سنة)، أيضاً هذا التحديد لا نعتقد أننا نحتاج إلى التعقيب عليه فإنه حينما يضع العام الخامس عشر معياراً للبلوغ فينظر في الظاهر إلى آخر مرحلة من الممكن أن يكون فيها النمو متأخراً متمثلاً ذلك في العام الخامس عشر.
طبعاً هناك نصوص في الواقع يمكننا أن نستشهد بها أيضاً قد يتجاوز فيها الشخص حتى الخامسة عشر فصاعداً، وفي هذا المجال تتقدم بعض النصوص بإلقاء الإضاءة على هذا الجانب لتقدم معايير أخرى، فمثلاً من ذلك أن الاحتلام يضعه المشرع الإسلامي معياراً هو الغالب في معرفة البلوغ وعدمه وهذا ما يحدده النص الآتي:
قال المعصوم(ع): وقد سئل عن اليتيم متى يجوز أمره؟ قال(ع): (حتى يبلغ أشدّه) ثم سئل(ع): وما أشده؟ قال(ع): (احتلامه).
وقال المعصوم(ع) في نص آخر: (إنقطاع يتم اليتيم الاحتلام وهو أشده).
هناك معايير أخرى يحسن بالطالب أن يرجع إليها إلى الكتاب المقرر ونعني به كتاب (دراسات في علم النفس الإسلامي) ليقف على تفصيلان الموقف.
والآن بعد أن انتهينا من الحديث عن بداية المرحلة الراشدة نبدأ لنحدثكم عن المراحل الفرعية لمرحلة المراهقة، ولعلكم تتذكرون جيداً أننا عندما تكلمنا عن المرحلة الطفلية الأولى لاحظنا كيف أن الإمام الصادق(ع) قد تحدث عن جملة مراحل فرعية نمائية في مرحلة الطفولة الأولى، كما لاحظتم بالنسبة إلى المرحلة الثانية جملة تحديدات لمراحل فرعية كالمرحلة الثامنة والتاسعة والعاشرة..الخ.
والآن عندما نتحدث عن مرحلة البلوغ وفي مقدمتها المرحلة المراهقة التي يبدأ بها البلوغ، نجد نفس الفروع التي تنتظم هذه المراحل وهو أمرٌ يمكننا أن نحدثكم عنه على النحو الآتي:
ونبدأ ذلك بالإشارة أولاً إلى الأبحاث الأرضية أو العلمائية حيث نجد أن بعض الأبحاث الأرضية تقسم مرحلة المراهقة إلى فترتين كالطفولة:
1ـ المرحلة المبكرة، أو المراهقة المبكرة وهي تبدأ من العام الثالث عشر إلى العام السادس عشر.
2ـ المرحلة المتأخرة وهي المرحلة التي تبدأ من العام السابع عشر إلى الواحد والعشرين.
وهذه الأبحاث الأرضية تضع بين الفترتين فارقاً نمائياً على شتى الصعد العقلية والنفسية والجسدية، ولعلّ الربط بين السن القانونية ونعني بها العام الثامن عشر وبين المراهقة المتأخرة يلقي بعض الضوء على فارقية النماء بين مرحلتي المراهقة.
أما المشرع الإسلامي فقد أشار إلى فارقية النماء بين مرحلتي المراهقة، متمثلة في السن القانونية التي يتبناها الأرضيون في تحمل المسؤولية حيث أشار الإمام المعصوم(ع) إلى هذه المرحلة بقوله: (لا يزال العقل والحمق يتغالبان على الرجل إلى ثمان عشرة سنة فإذا بلغها غلب عليه أكثرهما فيه)، لاحظوا أن الإشارة إلى العام الثامن عشر بالنسبة للمهارة العقلية متمثلة في الذكاء أو ضد الحماقة، تدلنا على أن هذه الجزئية من مرحلة المراهقة لها أهميتها النمائية بحيث تجعل نهاية لعمليات النمو العقلي.
ولعل لهذا السبب كان البحث الأرضي يتجه إلى جعلها بداية تحمل المسؤولية، ولكن المشرع الإسلامي لم يحدد لنا البلوغ إلا بكونه بداية تحمل المسؤولية، كما لاحظتم، لبداهة أن التمييز وقد أشرنا إلى ذلك لا يتطلب إلا مقداراً يسمح بمعرفة الخير والشر دون أن يقترن ذلك وضرورة الوصول إلى قمة المهارة العقلية، والمهم أن المشرع الإسلامي حينما يتجاوز ظاهرة الربطبين البلوغ والاضطلاع بالمسؤولية إنما يتقدم لتحديد مراحل النماء العقلي من حيث درجة المهارة بداية ونهاية.
ومما لا شك فيه أن النماء العقلي لا يتم منفصلاً عن المهارات الحركية، كما لا يتم منفصلاً عن التجارب التي تحفل البيئة بها، وتبعاً لذلك فإن تحديد أية مرحلة نمائية يتم وفق معيارين:
الأول: المعيار العام فيما يشكل القاعدة.
الثاني: المعيار الخاص فيما يقترن بالمؤثرات الخارجية ومساهمتنها في عملية النمو.
والإشارة إلى العام الثامن عشر يشكل فيما يبدوا قاعدة عامة وهي وإن كانت في معرض المقارنة بين الذكاء والحماقة كما لاحظتم في النص الذي قدمه الإمام(ع)، إلا أنها مؤشر واضح أيضاً إلى أن ثمة مهارة عقلية تستقر عند قوتها وانخفاضها، ولكن هل يعني ذلك أن العام الثامن عشر هو المحدد النهائي للنمو العقلي في نظر المشرع الإسلامي؟ الإجابة على هذا السؤال ستتبلور عندما نتابع وجهة النظر الإسلامية في عمليات النمو لهذه المرحلة ـ المراهقة ـ وسائر المراحل الراشدة لدى الشخصية.
وأول ما يواجهنا من ذلك هو تحديدالمراهقة بسن الحادية والعشرين، وقد لاحظنا النصوص الإسلامية تشير جميعاً إلى أن هذه المرحلة هي سبع سنوات، وأن المرحلةالأولى من الطفولة سبع سنوات أيضاً، وان المرحلة المتأخرة منها هي سبع سنوات بدورها، فيما يتم المجموع بواحد وعشرين عاماً.
وهذا يعني أن العام الحادي والعشرين يتميز بمهارة عقلية خاصة ما دام هذا التحديد مرتبطا بعملية التربية وإمكاناتها في التأثير على الفرد، تماماً كما كانت مراحل العام السابع والعام الرابع عشر متميزة بمهارة خاصة أيضاً.
هنا يمكن القول بأن وجود مراحل متميزة للنمو العقلي إنما تعد مؤشراً لإمكانية الانتقال من مرحلة إلى أخرى، لكن دون أن يعني ذلك توقف النمو مثلاً أو دون أن يعني ذلك عدم وجود مراحل أخرى من النماء تشق طريقها في منحى آخر من منحنيات النمو، وتبعاً لهذه الحقيقة يمكننا أن نتعرف على جملة من منحنيات النمو العقلي بحسب الإشارات الواردة إسلامياً في هذا الميدان، ومنها مثلاً النمو الذي يقف عند العام الثامن والعشرين من العمر، وفي هذا الصدد يقول الإمام علي(ع): (يضرب الصبي لسبع ويؤمر بالصلاة لتسع ويفرق بينهم في المضاجع لعشر، ومنتهى طوله لإحدى وعشرين ومنتهى عقله لثمان وعشرين إلا التجارب) لاحظوا في ضوء هذا النص وارتباط هذا بالنصوص السابقة نستخلص منها أن أربع مراحل تبدأ من البلوغ فصاعداً متمثلة في العام الرابع عشر والثامن عشر والحادي والعشرين والثامن والعشرين، ومما لا شك فيه أن لكل مرحلة من المراحل الأربع خصوصية نمائية يمكن استخلاصها من خلال الربط بين المرحلة ونمط المهارة المقترنة بها، فالعام الرابع عشر يقترن مع البلوغ الجنسي، والعام الثامن عشر يقترن مع درجة الذكاء والحماقة، والعام الحادي والعشرون يقترن مع الجنس من حيث نهاية الطول، والعام الثامن والعشرون يشكل المهارة العقلية في نهايتها غير مقترنة بالمهارات الأخرى.
ونحن في الواقع إذا عدنا إلى البحوث الأرضية وتجاربها المختلفة في هذا الميدان لم نجد تحديداً حاسماً لهذه الظاهرة، بل نجد تضارباً ملحوظاً بين وجهات النظر إن بعض الباحثين الأرضيين يحدد النماء العقلي عند العام السادس عشر، والبعض الآخر يحدده عند العام التاسع عشر والبعض الثالث يحدده عند العام الثاني والعشرين والبعض الرابع يحدده عند العام الثالث والعشرين، بل إن بعضا منهم نجده يجعل ذلك خلال العقد الثالث بأكمله، أي خلال العام الثلاثين، وهذا ما يماثل تقريباً التحديد الذي قرره الإمام(ع) عندما حدده بالعام الثامن والعشرين.
على ايةحال مع هذا التفاوت لدى الأبحاث الأرضية لايمكن أن نركن لأي تحديد حاسم في هذاالصدد، بيد أن المشرع الإسلامي قد حسم لنا الموقف حينما جزأ مرحلة الرشد من حيث النماء العقلي إلى المنحنيات المختلفة من النمو وصلة ذلك بسائر المهارات الحركية بحيث يمكننا القول أن نهاية النماء العقلي من حيث استقلاله عن سائر المهارات إنما يتم عند العام الثامن والعشرين من العمر.
هنا نتساءل من جديد: هل إن المشرع الإسلامي عندما حدد النمو العقلي لدى الشخصية في الثامنة والعشرين إنما جعله نهاية لأي نماء عقلي أم أن ثمة مراحل بعدها في السن خاضعة بدورها إلى نمو ولو من نمط آخر بحيث يقترن مع مهارات أو تجارب تحدد درجة النمو في هذا الميدان؟.
إن النص الذي تقدم الحديث عنه، أي النص الذي قدمه الإمام علي(ع) وحدد فيه الثامنة والعشرين نهاية للنماء العقلي، هذا التحديد قد استثنى منه الإمام(ع) التجارب حيث قال(ع): (إلا التجارب) وهذا يعني أن ثمة مهارات عقلية ترتبط بطبيعة التجارب التي يخبرها الفرد، ومما لا شك فيه أن التجارب من حيث وفرتها أو ضآلتها تساهم في إذكاء المهارة العقلية، والبحوث الأرضية طالما تشير إلى هذه الحقيقة وبخاصة تلك الإتجاهات التي تشدد في تعريف الذكاء على البيئة، إلا أن الإمام علياً(ع) حينما أشار إلى البيئة إنما عنى من ذلك تجسيد المهارة العقلية في سلوك وليس من حيث النماء الوراثي الذي يتحدد في الثامنة والعشرين بغض النظر عن المحيط وغيره.. كل ما في الأمر أن المحيط يترجم القدرات العقلية إلى فعل.
على أية حال خارجاً عما تقدم نتساءل هل أن التجارب وحدها تساهم في تجسيد المهارة العقلية أم أن ثمة مهارات عقلية تشق طريقها لدى الشخصية من حيث صلتها ليس بالتجارب بل من حيث صلتها بسائر المهارات الجسمية؟
هذا السؤال من الممكن أن نجيب عليه إذا أخذنا بعين الاعتبار أن المشرع الإسلامي يحدد جملة من مراحل النضج العقلي بعد الثامنة والعشرين منها مرحلة الثالثة والثلاثين، ومنها مرحلة الخامسة والثلاثين، ومنها مرحلة الأربعين، ومنها مرحلة الخامسة والستين.
إن الإشارة إلى هذه المراحل تقترن بعملية النضج العقلي في الواقع، وليس بعملية النماء هناك فرق بين النضج العقلي وبين النماء العقلي، فالنمو يقف عند الثامنة والعشرين كما صرح النص بذلك، أما النضج فإنما يقترن بطبيعة الحال مع تقدم العمر من جانب وغنى تقارب الشخصية والخبرات التي تمر من جانب آخر، بما يصاحب ذلك من التماسك والرصانة في الاستجابة لظواهر الحياة.
من هنا يمكننا القول أن التحديدات التي رسمها المشرع الإسلامي بعد الثامنة والعشرين إنما تمثل مراحل النضج لا مراحل النماء، وبكلمة اشد وضوحاً تمثل النضج النفسي من حيث تماسك الاستجابة ورصانتها.
وتبعاً لذلك نجد أن النصوص التي تتناول أمثلة هذه المراحل إنما تربط بينها وبين النضج في دلالته المذكورة التي أوضحناها، وفي ضوء هذا يمكننا أن نفسر قول المعصوم(ع) مثلاً: (إذا بلغ العبد ثلاثاً وثلاثين فقد بلغ أشده، وإذا بلغ أربعين سنة فقد بلغ منتهاه).
لاحظوا أن من الواضح أن بلوغ الفرد أشده من حيث النضج الجنسي قد حدده الإمام المعصوم في نص آخر في العام الثالث عشر كما سبق التفصيل في ذلك، وهذا يعني أن بلوغ الثالثة والثلاثين إنما هو بلوغ الشخصية أشدها من حيث نضجها العقلي والنفسي وليس من حيث النماء، والأمر ذاته فيما يتصل بالاربعين عاماً حيث يتم النضج في أعلى درجاته، والنصوص الإسلامية التي تطالب الفرد بمحاسبة نفسه عند الأربعين، والإقلاع عن مقارفة الذنب، هذه النصوص تلقي إنارة كاملة على مفهوم النضج الذي حددناه في هذا المجال، ويمكننا أيضاً أن نفسر النص الآتي في ضوء الدلالة المذكورة، يقول المعصوم(ع): (يزيد عقل الرجل بعد الأربعين إلى خمس وستين، ثم ينقص عقله بعد ذلك) فالزيادة في هذا النص تعني النضج وليس النماء، ومع أن النص يقابل بين الزيادة والنقصان إلا أننا ينبغي أن لا نستخلص من ذلك أن الزيادة تعني النماء العقلي مقابلاً للنقصان الذي يلحق الشخصية في شيخوختها، بل إن النقصان في واقعه يمثل خفوت سائر المهارات في السن المذكورة، شأنه في ذلك شأن سائر القوى الجسدية التي تحدد في مرحلة خاصة كالطول الذي يتحدد في الحادية والعشرين مثلاً ممتداً إلى مراحل معينة حتى يبدأ بالتقوض مقترناً بذلك مع خفوت قوى الفرد بكاملها مع الشيخوخة.
إلى هنا ننتهي من الحديث عن المراحل التربوية أومراحل النمو وما تتطلبه من عمليات تربوية تتناسب مع مراحل نماء الشخصية، ويمكننا أن نلخص كل ما قدمناه في هذا المجال على النحو الآتي:
نقول بعامة تظل مرحلة الطفولة الأولى من العام الأول إلى العام السابع عديمة الأثر في عملية التنشئة إلا في نطاق محدود بالنحو الذي أشار الإمام الصادق(ع)، أي مع بداية السنة الثالثة وتطلب ذلك بعض العمليات التربوية التي يمكن أن ينتفع بها الطفل في مختلف المراحل الفرعية التي تسم المرحلة الكبرى للطفولة الأولى.
وأما الطفولة الثانية فتعد ذات أهمية بالغة كما كررنا ذلك وتبعاً لهذه الأهمية فإن المعنيين بشؤون التربية والتعليم ينبغي أن يوجهوا بالغ عنايتهم، ليس إلى تنمية المهارات العقلية أو المعرفية كالقراءة والكتابة فحسب، بل إلى تنمية المهارات النفسية والاجتماعية أيضاً كأن تخصص مثلاً مواد تدريبية لهذا الغرض، كتدريب الأطفال مثلاً على الثقة بالنفس والشجاعة ومواجهة الغرباء والتحدث في المجتمعات العامة وما إلى ذلك من السمات النفسية.. فضلاً عن السمات العبادية التي ينبغي أن تضعها في اهتمامنا الأولي بطبيعة الحال، وما يقال في الواقع في مرحلة التعليم الابتدائي من الممكن أن نقوله أيضاً في مرحلة التعليم الثانوي، بل حتى في المرحلة الجامعية في سنواتها الأولى، أي طوال سنوات المراهقة السبع، فالملاحظ أن المشرع الإسلامي وكذلك علماء النفس والتربية كما لاحظتم جعلوا مرحلة المراهقة امتداداً للطفولة من حيث خضوعها للتدريب والتعلم بعامة.
إن فترة المراهتة كما تقدم نظراً لتميزها بالاضطراب وبعدم الثبات بسبب من طابعها الانتقالي من الطفولة إلى الرشد، تفتقر بدورها إلى مقدار من التعلم يتناسب وحالة عدم الثبات فيها، من هنا جعلها المشرع الإسلامي امتداداً للمرحلة السابقة مع أن المراهق يتحمل مسؤوليته كاملة من حيث الترتيب لآثار الثواب والعقاب الأخروي على سلوكه.
ولكن مع ذلك فإنه بحاجة إلى التدريب حتى يستكمل أي نقص تربوي لم تتح فرصة الطفولة الثانية فيه، ففي نص تربوي سبق أن عرضناه عليكم قال الإمام الصادق(ع): (الغلام يلعب سبع سنين ويتعلم الكتابة سبع سنين ويتعلم الحلال والحرام سبع سنين) فالسنوات السبع الأخيرة أي من العام الرابع عشر إلى الحادي والعشرين وهي سنوات المراهقة تجسد بداية مرحلة البلوغ التي يتحمل المراهق فيها مسؤولية سلوكه من ممارسة الواجب وترك المحرم..الخ.
ولكن مع ذلك يطالبنا الإمام(ع) بأن نعلم المراهق الحلال والحرام في هذه المرحلة مع العلم أن المفروض أن يكون الفرد قد تعلم الحلال والحرام من أول بلوغه، أي من أول العام الرابع عشر فما معنى أن يطالب بتعلم الحلال والحرام طوال سبع سنوات أخرى؟
الجواب يظل من الوضوح بمكان وهو أن المقصود من تعلم الحلال والحرام هو التأكيد على أهمية هذه المرحلة المضطربة وإمكانات هذه المرحلة في تعديل السلوك، وعد هذه المرحلة فرصة أخيرة لعمليات التدريب على السلوك العبادي.
وقد أشارت النصوص الإسلامية بوضوح إلى الطابع غير المستقل لدى شخصية المراهق حيث قلنا أن النبي(ص) شبه الطفل في مرحلته الأولى بالسيد والمرحلة الثانية بالعبد والثالثة بالوزير، حيث أن الوزير كما كررنا الكلام يختلف عن رئيس الدولة بأنه لا يملك صلاحية كاملة في تسيير أمور الدولة كما يختلف عن المواطن الأهلي لتملكه صلاحية رسمية في ممارسة شؤون الدولة، ولكن في نطاق محدد، وهذا يعني أن المراهق يجمع بين استقلال الشخصية وعدا عن ذلك أنه مستقل ولكنه استقلال ناقص.
من هنا أي لكونه استقلالاً ناقصاً يفتقر إلى مزيد من التدريب حتى يسد النقص المذكور ويستكمل استقلال شخصيته، وإذا كان الأمر كذلك حينئذٍ لابد من متابعة تدريبه على السلوك السائد على نحو ما نبذله من التدريب في مرحلة الطفولة المتأخرة.
ونفهم هذا بالشكل الواضح حينما نتابع الوثيقة التربوية التي قدمها النبي(ص) حيث أضاف قائلاً: (فإن رضيت خلائقه لإحدى وعشرين سنة وإلاضرب على جنبيه فقد أعذرت إلى الله) ماذا يعني هذا النص؟ وهو نص جديد لم نقرأه عليكم في محاضرات سابقة.
هذا يعني أن نهاية المراهقة تمثل نهاية لإمكانات التدريب، أي أنها تتمتع بإمكانات تطبيع الفرد على السلوك الصائب بحيث إذا فشلت التربية في تدريبه في سن الحادي والعشرين على السلوك السوي حينئذٍ يكون ولي أمره معذوراً أمام الله، أي أن نهاية التدريب تتم مع نهاية مرحلة المراهقة وتنتهي بذلك مسؤولية ولي أمره.
كما نخلص من هذا كله إلى أن المعنيين بشؤون التربية الإسلامية ينبغي أن لا يهملوا أيضاً مراحل الدراسة الثانوية والجامعية التي تستغرق سنوات المراهقة السبع، وألا يكتفوا كما قلنا فيها بتعليم المهارة المعرفية للطالب بل يضيفون إليها تعليم السلوك بعامة على نحو ما قلناه عن مرحلة التعليم الابتدائي، فما دامت المراهقة ذات إمكان على تعلم السلوك يماثل إمكانات الطفولة حينئذٍ يتعين على مسؤولي التربية ملاحظة هذا الجانب والتشدد في تعديل أي سلوك لم تستطع مرحلة الطفولة أن تعدّل منه.
من جديد قبل أن نختم حديثنا نكرر ونرجو أن لا يملّ الطالب من هذا التكرار، ونلفت انتباه المشتغلين في حقل التربية والتعليم إلى ملاحظة هذا الجانب، والعنايةبه بنفس العناية التي يولونها حيال التربية المعرفية، أعني تخصيص الحصص العملية لتعلّم السلوك النفسي والاجتماعي والعبادي في كل مراحل التعليم الابتدائي والثانوي والجامعي، كما نلفت انتباه الأبويل وأولياء الأمور للأطفال والمراهقين بعامة إلى مراعاة هذا الجانب، واستثمار مرحلة الطفولة المتأخرة أي من العام السابع إلى الرابع عشر، والمراهقة من العام الرابع عشر إلى العام الحادي والعشرين في التدريب على السلوك الإسلامي في مختلف الصعد بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.
إلى هنا نكون قد انتهينا من الحديث عن المراحل التربوية حيث بدأنا ذلك بالحديث أولاً عن المراحل التمهيدية متمثلة في خمس مراحل هي مرحلة الانتقاء الزوجي ومرحلة انعقاد النطف، ومرحلة الحمل، ومرحلة النفاس، ومرحلة الرضاعة، حيث قدمنا وجهة النظر الإسلامية مقارنة بوجهات النظر العلمانية في هذا المجال، وقدمنا توصيات متنوّعة للمشرع الإسلامي تناسب هذه المراحل التمهيدية التي تهدف في الواقع ـ أي وقدمنا توصيات متنوّعة للمشرع الإسلامي تناسب هذه المراحل التمهيدية التي تهدف في الواقع ـ أي التوصيات فيها ـ إلى تحسين النسل وراثياً وبيئياً، وبعد ذلك تحدثنا عن المراحل الرئيسة وهي: مرحلة الطفولة الأولى والطفولة الثانية والمرحلة الراشدة والتركيز أو التشدد في السنوات السبع الثانية والأخيرة منها، وهي سنوات المراهقة حيث ألحقت بسنوات الطفولة الثانية من حيث خضوعها للتدريب الجاد.
وقد قلنا أن الأهم في كل هذه المراحل هو المرحلة الثانية أي المرحلة التي تبدأ مع العام السابع وتنتهي مع العام الرابع عشر, حيث قلنا أن الإسلام يشدد كل التشدد في هذه المرحلة ويطالب أولياء الأطفال بضرورة إلزامهم تربوياً في هذه المرحلة.
بعد ذلك تحدثنا عن سائر المراحل، ومنها مرحلة المراهقة التي ألحقها المشرع الإسلامي مرحلة الطفولة الثانية.
وقبل أن نختم الحديث عن ذلك كله نود أن نشير إلى جانب مهم وهو أن عدم نجاح الشخصية في تدريبها على النحو المطلوب لا يعني ذلك إمكانية أن يياس المربي من تعديل سلوك الشخصية، لأن ذلك في الواقع يتنافى أساساً مع طبيعة التركيبة البشرية التي أخضع الله سبحانه وتعالى لحيوية كاملة بحيث تستطيع أن تغير سلوكها حتى وهي في اللحظات الأخيرة من العمر، لذلك فإن المطلوب هو تدريب الشخصية في المراحل التي سبقت الإشارة إليها.
ولكن إذا لم يتح ذلك ينبغي أن لا نيأس في الواقع وأن نتابع تدريب الآخرين على ضرورة تعلم السلوك العبادي حيث قلنا أن التربية الإسلامية تعني أساساً بتدريب الشخصية على تعلم السلوك العبادي، وهو تعلم لا ينحصر في سلوك شعائري فحسب بل ينسحب على مطلق السلوك الفردي والاجتماعي والسلوك العقلي والجسمي والنفسي.. الخ.
بهذا ننتهي من الحديث عن مراحل التربية، ونتقدم إلى موضوع جديد هو (تصنيف السلوك) حيث أن التصنيف للسلوك عبر نمطيه (السوي وغير السوي) يسعف المعنين بالتربية في لعمليات التعديل للسلوك.