قال الله تبارك وتعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}(هود:112)، {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}. (فصلت:30) صدق الله العلي العظيم.
النبي صلى الله عليه وآله في دروس الاستقامة.
الرسول صلى الله عليه وآله المعلم الأول لمن يريد الاستقامة في الحياة الإنسانية، هذه الاستقامة التي يعلمنا إياها ركيزتها الاستقامة على المبدأ، والحق تعالى أمر النبي صلى الله عليه وآله بالاستقامة مع أمته؛ فالقرآن يوجّه الخطاب للرسول آمراً له بالاستقامة، وهو صلى الله عليه وآله يعلم الأمة الاستقامة والثبات على المبدأ دون ارتداد أو ميلٍ وانحراف.
الهدف الواضح يصنع النجاح.
كل إنسان وكل أمة من الأمم لها أهداف تضعها نصب عينيها، هذه الأهداف يراد أن يُوصل إليها على المستوى الشخصي للفرد و على مستوى المجتمع كأمة، تصبو إلى تحقيق ما وُضع من أهداف إلا أننا نلحظ أنَّ الفرد قد يبوء بالفشل في تحقيق أهدافه، وكذلك الأمة، فهناك أمم ترتد على أعقابها دون أن تصل إلى أهدافها، ويعود السبب إلى أنَّ الفرد والأمة لم يأخذا بدرس الاستقامة الذي علّمه الرسول صلى الله عليه وآله لأمته، وركّز عليه القرآن ملفتاً الانتباه إليه في أكثر من موضع.
ماذا تعني الاستقامة؟
الاستقامة هي المسار تجاه الهدف على صراطٍ مستقيم دون ميلٍ عن الطريق الذي يؤدي إلى تحقيق الهدف، فهي سيرٌ في وسط الجادة بمعنى أن يكون الإنسان عند تحقيق أهدافه متصفاً بالمرونة والوسطية الموصلتين إلى تحقيق الهدف؛ فلا شدة ولا عنف في تحقيق أهدافه، هذه الاستقامة التي أمر الله بالأخذ بها قال النبي صلى الله عليه وآله عنها: ‹‹شيبتني سورة هود ››، لما ذُكِرَ في السورة من الأمر بالاستقامة له صلى الله عليه وآله مع أمته فالأمر لا يخصه وحده، فهو صلى الله عليه وآله في منتهى الاستقامة إلا أنّ الأمة هي التي بحاجة للاستقامة.
حقيقة توجيه الاستقامة للنبي صلى الله عليه وآله.
الرسول صلى الله عليه وآله مأمور بالسعي نحو استقامة الأمة كمجتمع، وهي من الأمور الصعبة والمؤرقة للقائد إذ كيف يتاح له أن يجعل المجتمع المقود يصل إلى شاطئ النجاة ويستقيم في السير على الصراط، هذه الصعوبة أشار إليها النبي صلى الله عليه وآله بقوله : ‹‹شيبتني سورة هود››، إذ أنّ الناس طباعهم متعددة وأمزجتهم مختلفة؛ فيمكن أن تستقيم ثلة منهم أو أُمة كاملة، لكنها سرعان ما تتراجع عن أهدافها إذا تعرضت للابتلاء والامتحان، بيد أنّ من يريد القيام بالإصلاح فلا بد أن يتحمل أقسى الألم في القضاء على الظواهر السيئة، وهذا يتطلب الجهد الكبير والمعاناة الطويلة وبذل الطاقات المادية والمعنوية حتى يستطيع أن يصل إلى مرامه.
عوائق في الوصول إلى الهدف.
نلحظ الكثير من الناس على المستوى الفردي يريد أن يصبح عالمًا أو كاتبًا أو شخصية ذات ثقلٍ اقتصادي، إلا أنه لن يصل إلى هذا المستوى بين عشيةٍ وضحاها وفي مدةٍ محدودة؛ بل يحتاج إلى جهودٍ مضنية وتخطي عقبات كأداء، بيد أنّ الكثير من الناس مجرد أن يواجه عقبة يرتد إلى الوراء و ينسى أو يتناسى الهدف الذي وضعه نصب عينيه ولهذا لا يستطيع الوصول إلى ما أراد.
عقبات واجهها النبي صلى الله عليه وآله.
النبي صلى الله عليه وآله واجه عقبات كثيرة من الناحية الاقتصادية والاجتماعية ومُورِسَ تجاه شخصيته مجموعة من الضغوط ووُجِهَ صلى الله عليه وآله بالإغراءات المتعددة من الناحية المادية وغيرها، والتي قد يتعرض إليها الكثير، ونوجز ما تعرض له صلى الله عليه وآله في الآتي:
الأول: إيذاء شخص النبي صلى الله عليه وآله.
لقد أوذي النبي صلى الله عليه وآله من الناحية الشخصية، بإيذاءٍ لا يتحمله في العادة حتى أصحاب الأهداف، ولا يمكنهم الصبر عليه، فالكلمات البسيطة تؤثر عليهم فكيف بالإيذاء الكبير الذي أوذي به النبي صلى الله عليه وآله ، فنحن نجد أنفسنا تتألم من كلمةٍ بسيطة قد لا تكون جارحة، تهزنا وتجعلنا نتراجع عن أهدافنا إلا أنّ النبي صلى الله عليه وآله واجه بصبرٍ كبيرٍ الكلمات الجارحة والمقذعة، والأفعال المشينة كإلقاء الروث والأوساخ عليه أو وضع القاذورات في طريقه، وفي بعض الأحايين يُؤذى بالضرب، وهذا لا يُتحمل من الشخصيات الاجتماعية، بل يؤدي بها إلى التراجع عن الأهداف.
الثاني: أسلوب التحبيط والإغراء.
الإغراء والتحبيط مؤثران سلباً، فهما يجعلان الإنسان يبتعد عن تحقيق أهدافه، ويتراجع عن الغاية التي ينشدها، فالكلمات المحبطة، التي تُقلل من شأن الأهداف الكبيرة التي يطمح إليها الإنسان تُحدِثُ أثراً سيئاً في نفس السامع، بيد أنّ النبي صلى الله عليه وآله حقق أهدافه بالرغم مما قيل له من تثبيطٍ، وعُرِضَ عليه من إغراءٍ، فقد قيل له : نعطيك أجمل نساء العرب ونمنحك من الأموال ما تريد، ونحقق لك ما تطمح إليه من الناحية الاقتصادية، بل أكثر من ذلك، نُصيرك ملكًا علينا في الجزيرة العربية، ولم يتراجع صلى الله عليه وآله عن أهدافه بهذه الإغراءات، بل ازداد ثباتاً وبصيرةً وسار بالرغم من كل ذلك، وكان يجابه الإغراء والإيذاء بصمود وصبرٍ شديدين إلى أن تحقق له ما أراد.
مواجهة الإيذاء بين النبي صلى الله عليه وآله والأنبياء .
وقد اختزل صلى الله عليه وآله هذه المعادلة التي ذكرناها من عذابٍ بأنماطٍ متعددة وأبان مقدار صبره واستقامته بقوله: ‹‹ما أُوذي نبي بمثل ما أوذيت››، فالنبي إبراهيم عليه السلام تعرض للعذاب فأُُلقي في النار، وعُذِبَ موسى عليه السلام على النحو الذي قصه القرآن الكريم، وعيسى عليه السلام أبانت طائفة من الروايات ما أُوذي به، بيد أنّ النبي صلى الله عليه وآله بقوله : ‹‹ما أُوذي نبي بمثل ما أوذيت››، أوضح أنّ جميع الأنبياء والرسل عليهم السلام لم يحتملوا ما تحمله صلى الله عليه وآله، وذلك لثباته واستقامته ورسوخه على المبدأ إلى أن أوصل لنا الرسالة بيضاء نقية نتفيئ بظلها ونجني الخيرات منها.
نتائج ثبات النبي صلى الله عليه وآله.
لو لم يكن بذلك الثبات وتلك الاستقامة لكان الإسلام أثراً بعد عين، وكان قصة من القصص التي يقصها علينا التأريخ الإنساني ليس إلا، لكنه صلى الله عليه وآله بصبره وجهاده وباستقامته وثباته على المبدأ رسَّخ معالم الدين وزرع هذه المفاهيم في نفوس أمته، ولم يكن همه الاستقامة لبعض أفراد الأمة فحسب، بل أراد الاستقامة لها كمجتمع في كل فرد منها.
طريق الوصول إلى الهدف.
فإذا أرادت الأمة بشرائحها الخير لابد أن تضع نصب عينيها الأهداف وتسعى إلى تحقيقها، وتصمد صابرةً على الأذى، وتحمُّل الإنسان المشقة والعذاب للوصول إلى الغاية سُنةٌ تأريخية وكونية، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ* نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ}،(فصلت:30-31) {اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ}(البقرة:257)، فإذا رافقك التوفيق الإلهية والذي لن يتأتَّى إلا مع الصمود والاستقامة والثبات على المبدأ - هذه معادلة - يمكن أن تصل إلى أهدافك على المستوى الشخصي ويمكن للأمة أن تصل إلى أهدافها، ولن تحصل الأمة على الظفر والنصر ولن يصل الفرد إلى أهدافه التي وضعها دون تحمل التعب والمشقة والاستقامة على المبدأ قال الإمام عليٌّ عليه السلام: ‹‹من طلب شيئًا ناله أو نال بعضه››، فالذي يريد أن يُحقق شيئًا ويُوجه طاقاته ويصمد في سبيل الوصول لها لابد أن يصل أو يدرك أكثر ما أراد أن يحصل عليه .