ولاية الفقيه في كلام العلماء
ومعالم هذا السبيل تطورت في طول الزمن بعد عصر الغيبة, إنْ من ناحية بحثها العلمي والغوص في التنظير لها وبناء الأدلة, أو من ناحية نموها كتجربة عملية رائدة في سبيل سدِّ الفراغ الحاصل بعد غيبة المعصوم عليه السلام, وهذا ما يظهر جلياً فيما لو تصفحنا كلام علمائنا, حيث نجد أنَّ موضوع ولاية الفقيه مذكور في أقوالهم منذ بدايات الغيبة الكبرى للإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف, ويمكن تقسيم الكلام في عرض أقوالهم إلى مرحلتين, وذلك باعتبار ورودها كمصطلح "ولاية الفقيه" في كلامهم:
الأول: من مرحلة الشيخ المفيد قدس سره إلى ما قبل مرحلة الشيخ النراقي قدس سره .
الثاني: من مرحلة الشيخ النراقي قدس سره حتى عصرنا الحالي.
وسنذكر فيما يلي عيِّنةً من كلمات العلماء رضوان الله تعالى عليهم:
1– الشيخ المفيد(336-413هـ ): يقول قدس سره في باب الأمر بالمعروف والجهاد: "فأما إقامة الحدود, فهو إلى سلطان الإسلام المنصوب من قبل الله تعالى, وهم أئمة الهدى من آل محمد عليهم السلام, ومن نصبوه لذلك من الأمراء والحكام, وقد فوضوا النظر فيه إلى فقهاء شيعتهم مع الإمكان"1.
2– الشيخ الحلي (374–447 هـ): يقول قدس سره في باب القضاء: "تنفيذ الأحكام الشرعية والحكم بمقتضى التعبد فيها من فروض الأئمة عليهم السلام المختصة بهم دون من عداهم ممن لم يؤهلوه لذلك, فإن تعذر تنفيذها بهم عليهم السلام وبالمأهول لها من قبلهم لأحد الأسباب لم يجز لغير شيعتهم تولّي ذلك ولا التحاكم إليه ولا التوصل بحكمه إلى الحق ولا تقليده الحكم من الاختيار, ولا لمن لم يتكامل له شروط النائب عن الإمام في الحكم من شيعته, وهي: العلم بالحق في الحكم المردود إليه, والتمكن من إمضائه على وجهه, واجتماع العقل والرأي وسعة الحلم والبصيرة، وظهور العدالة والورع والتدين بالحكم، والقدرة على القيام به، ووضعه في مواضعه... فهو نائب عن ولي الأمر عليه السلام في الحكم، ومأهول له لثبوت الإذن منه وآبائه عليهم السلام لمن كان بصفته في ذلك, ولا يحل له القعود عنه"2.
3– المحقق الكركي (868–940 هـ): المعروف بالمحقّق الثاني يقول قدس سره: "اتفق أصحابنا رضوان الله عليهم على أنَّ الفقيه العدل الإمامي الجامع لشرائط الفتوى, المعبر عنه بالمجتهد في الأحكام الشرعية نائب من قبل أئمة الهدى صلوات الله وسلامه عليهم في حال الغيبة في جميع ما للنيابة فيه مدخل – وربما استثنى الأصحاب القتل والحدود مطلقاً – فيجب التحاكم إليه والانقياد إلى حكمه, وله أن يبيع مال الممتنع من أداء الحق إن احتيج إليه, ويلي أموال الغياب والأطفال والسفهاء والمفلسين, ويتصرف على المحجور عليهم, إلى آخر ما يثبت للحاكم المنصوب من قبل الإمام عليه السلام"3.
4– الشهيد الثاني (911-966 هـ): يقول قدس سره: "فالفقيه في حال الغيبة وإن كان منصوباً للمصالح العامة لا يجوز له مباشرة أمر الجهاد بالمعنى الأول"4.
والشهيد الثاني هنا يثبت الولاية للفقيه, ويستثني منها الجهاد الإبتدائي.
5- المحقق النراقي (متوفى 1244هـ ): يقول قدس سره: "إنَّ كلية ما للفقيه العادل توليه وله الولاية فيه أمران: أحدهما كل ما كان للنبي والإمام ـ الذين هم سلاطين الأنام وحصون الإسلام ـ فيه الولاية وكان لهم, فللفقيه أيضاً ذلك, إلا ما أخرجه الدليل بإجماع أو نص أو غيرهما, وثانيهما أنَّ كل فعل متعلق بأمور العباد في دينهم ودنياهم ولا بدَّ من الإتيان به ولا مفرَّ منه..."5.
وكما أشرنا سابقاً, فإنَّ المحقق النراقي هو أول من ظهر في كلماته اصطلاح ولاية الفقيه.
6- المحقق النجفي (متوفى 1266 هـ): يقول قدس سره: "لولا عموم الولاية لبقي كثير من الأمور المتعلقة بشيعتهم معطلة, فمن الغريب وسوسة بعض الناس في ذلك, بل كأنَّه ما ذاق من طعم الفقه شيئاً, ولا فهم من لحن قولهم ورموزهم أمراً, ولا تأمل المراد من قولهم: إنِّي جعلته عليهم حاكماً وقاضياً وحجة وخليفة ونحو ذلك مما يظهر منه إرادة نظم زمان الغيبة لشيعتهم في كثير من الأمور الراجعة إليهم..."6.
7- الشيخ الأنصاري (1214-1281 هـ): يقول قدس سره: "وعلى أيِّ تقدير, فقد ظهر مما ذكرنا أنَّ ما دلَّت عليه هذه الأدلة هو ثبوت الولاية للفقيه في الأمور التي يكون مشروعية إيجادها في الخارج مفروغاً عنها..."7.
8- الشيخ رضا الهمداني (1240-1322هـ ): يقول قدس سره: "لكنَّ الذي يظهر بالتدبر... إقامة الفقيه المتمسك برواياتهم مقامه؛ بإرجاع عوام الشيعة إليه في كل ما يكون الإمام مرجعاً فيه كي لا يبقى شيعته متحيرين في أزمنة الغيبة..."8.
9- الإمام الخميني يقول الإمام قدس سره: "ولاية الفقيه من المواضيع التي يوجب تصورها التصديق بها, فهي لا تحتاج لأية برهنة, وذلك بمعنى أنَّ كلَّ من أدرك العقائد والأحكام الإسلامية – ولو إجمالاً – وبمجرد أن يصل على ولاية الفقيه ويتصورها فسيصدق بها فوراً وسيجدها ضرورة وبديهية..."9.
ولم يكتفِ الإمام الخميني قدس سره بإقامة الأدلة على ولاية الفقيه، بل نجده قد أقام صرح الحكم الإسلامي، وشيَّد أركانه، وأسسَّه على مبدأ ولاية الفقيه.
ولاية الفقيه في دستور الجمهورية الإسلامية في إيران
مع قيام الجمهورية الإسلامية المباركة، دخلت مسألة ولاية الفقيه في القانون الأساسي للدولة في تطور تاريخي جديد لهذه المسألة, وقد أحصي ستة عشر مورداً في دستور الجمهورية الإسلامية في إيران تتناول موضوع ولاية الفقيه, فقد ورد في مقدمة الدستور اعتبار القيادة بيد الفقيه، وأنه ضمانة عدم الإنحراف للأجهزة المختلفة في نظام الجمهورية ووظائفها الأصلية.
كما ورد في المادة الخامسة: في زمن غيبة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف تكون ولاية الأمر وإمامة الأمة في جمهورية إيران الإسلامية بيد الفقيه العادل المتقي البصير بأمور العصر الشجاع القادر على الإدارة والتدبير...
ما هي ولاية الفقيه؟
كما ذكرنا إنَّ موضوع بحثنا هو الولاية بمعنى السلطة, وقد ورد قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾(المائدة:55-56) بهذا المعنى, فالآية تبين أن الولاية في الحقيقة هي لله سبحانه وتعالى, فالله عز وجل هو الذي خلق الإنسان وأسكنه الأرض وإليه يرجع الأمر كله.
وهذه الولاية الإلهية تتجسد بولاية النبي صلى الله عليه وآله وسلّم, والتي شرح القرآن الكريم معناها في قوله تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾(الأحزاب:6). وكون النبي أولى بالمؤمن من نفسه معناه أنه أولى به في جميع الصلاحيات التي يمتلكها الإنسان لنفسه، فهو أولى به في المسائل الاجتماعية وفي القضاء والمسائل الحكومية وغيرها... وأنَّ إرادته ورأيه مقدَّمان على إرادة ورأي أي مؤمن.
هذه الولاية التي أكدها النبي صلى الله عليه وآله وسلّم، وأكد على استمرارها بعده في اثني عشر إماماً من خلال الأحاديث المتعددة، أهمها حديث غدير خم حيث قال صلى الله عليه وآله وسلّم بعد أن أخذ بيد علي عليه السلام: "ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟ من كنت مولاه, فهذا علي مولاه...."10
وفي غيبة الإمام صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف, كانت ولاية الفقيه امتداداً لولاية المعصوم ليقوم بسد الفراغ على المستوى الاجتماعي والسياسي وغيرها من الجهات.
فولاية الفقيه التي نحن بصدد البحث عنها هي نيابة عن الإمام المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف في قيادة الأمة وإقامة حكم الله تعالى على الأرض مستمدة منه، وهي جذوة من نوره، وشهاب من قبسه، وفرع من فروع دوحته ولذلك عرفت ولاية الفقيه أنها "حاكمية المجتهد الجامع للشرائط في عصر الغيبة".
الولاية لطف
من الجدير بالذكر أنَّ جميع الموارد التي شرّع فيها الدين ولاية لبعض الناس على بعض، فقد راعى فيها مصلحة المولّى عليه واللطف به، ورعاية حاله, ولم ينظر إلى مصلحة الولي ولم يهدف من خلالها أن يمنحه امتيازاً، كما قد يتوهم ذوو النظر القاصر.
فالولاية في نظر الإسلام مسؤولية وتكليف, كيفما كانت وحيثما وقعت. فولاية الأب مثلاً على أبنائه الصغار, لحفظهم ورعايتهم واللطف بهم. وولاية الأب في تزويج ابنته البكر لصيانتها وحفظها من الضياع والاستغلال. وولاية الوقف لرعاية شؤونه ومصالحه والحيلولة دون خرابه وإساءة استعماله. وولاية الحاكم على أموال الغائب والقاصر والسفيه والمجنون كذلك. وولاية الفقيه لحفظ المصالح العامة وصيانة المجتمع من الفساد والانحراف والحقوق من الضياع.
وفي جميع الموارد تقيّد الولاية برعاية مصالح الجهة المولّى عليها، وليس للولي الحق أن يتصرف على وفق أهوائه ومصالحه ورغباته الخاصة، بل تسقط ولايته خارج تلك الحدود ومنه يتبين أنّ الولاية الشرعية، أبعد ما تكون عن الاستبداد والتعنّت والدكتاتورية.
للمطالعة
الحكومة وسيلة لتحقيق الأهداف السامية
تولي أمر الحكومة في حد ذاته ليس مرتبةً ومقاماً، وإنَّما مجرد وسيلة للقيام بوظيفة تطبيق الأحكام, وإقامة نظام الإسلام العادل. يقول أمير المؤمنين عليه السلام لابن عباس عن نفس الحكومة: "ما قيمة هذا النعل؟ فقال ابن عباس: لا قيمة لها. فقال عليه السلام: والله لهي أحبُّ إليَّ من إمرتكم، إلا أن أقيم حقاً (أي اقيم قانون الإسلام ونظامه) أو أدفع باطلاً"11(أي القوانين والانظمة الجائرة والمحرمة) إذاً فنفس الحاكمية والإمارة مجرد وسيلة ليس إلاّ. وهذه الوسيلة إذا لم تؤدِّ إلى عمل الخير وتحقيق الأهداف السامية، فهي لا تساوي شيئاً عند أهل الله. ولذا يقول عليه السلام في خطبة نهج البلاغة "لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر... لألقيت حبلها على غاربها"12(أي لتركت تلك الحكومة والإمارة) وذلك بديهي، فتولي الحكومة هو مجرد تحصيل وسيلةً وليس مقاماً معنوياً. إذ لو كان مقاماً معنوياً لما تمكن أحد من غصبه أو التخلي عنه. فبمقدار ما تكون الحكومة والإمارة وسيلةً لتطبيق الأحكام الإلهية وإقامة النظام العادل للإسلام، بمقدار ما تكون ذات قدر وقيمة، ويكون المتولي لها جليل القدر، سامي المقام. بعض الناس هيمنت عليهم الدنيا، فهم يتوهمون أنّ الرئاسة والحكومة بحدِّ ذاتها شأن ومرتبة بالنسبة للأئمة عليهم السلام، بنحو لو ثبتت لغيرهم؛ فكأنَّما الدّنيا قد خربت. مع أنَّ رئيس وزراء الاتحاد السوفيتي أو إنكلترا أو رئيس جمهورية أمريكا عندهم حكومات (ورئاسة) لكنّهم كفرة. فهم كفرة، لكنّهم يملكون السلطة والنفوذ السياسي. وهذه السلطة والنفوذ والقدرة السياسية يجعلونها وسيلة لتحقيق طموحاتهم من خلال تطبيق القوانين والسياسات المعادية للإنسانية.
الأئمة والفقهاء العدول مكلفون بالاستفادة من النظام والتكشيلات الحكومية من أجل تنفيذ الأحكام الإلهية، وإقامة النظام الإسلامي العادل، والقيام بخدمة الناس. الحكومة بحدِّ ذاتها بالنسبة لهم لا تعني سوى المشقة والتعب. لكن ما العمل؟ إنَّهم مأمورون بالقيام بالوظيفة، فمسألة ولاية الفقيه هي مسألة تنفيذ مهمة والعمل بالتكليف13.