موضوع: تحليل منطقي لصفحة من صفحات كربلاء الأربعاء نوفمبر 02, 2016 11:08 am
يحتلّ البحث التحليليّ النقديّ في التاريخ أهمّيّةً كبيرةً للوصول إلى الحقائق أو ما هو قريب منها، أو على الأقلّ إلى النتائج التي تعزِّزها الشواهد والقرائن، وتتفق مع منطق التاريخ. وقد تترافق البحوث التحليلية والنقديّة مع الأعمال التوثيقيّة، أو تأتي في مرحلة تالية لها، على اعتبار أن العمل التوثيقي هو بمثابة جمع الوثائق التاريخيّة المنتسبة إلى أصحابها حسب تسلسلها الزمنيّ، والذي يتطلب في مرحلة تالية بحث محتوياتها ودراسة مضامينها وبيان أبعادها وتقديم تفسير منطقيّ لبعض حوادثها. وعليه فإنّ عمليّة التحليل النقديّ تعتبر ضروريّة ومكمِّلة للأعمال التوثيقيّة. فمع تعرُّض الروايات التاريخيّة للوضع والدسّ والتقوُّل من قِبَل أهل الأهواء الدينيّة والسياسيّة، لصالح هذا الفريق وضدّ ذاك، كان لابُدّ من فحص الروايات وتعريضها للنقد الداخليّ والخارجيّ. فكثيراً ما يلاحظ الدارس في مصدر واحد وحادثة واحدة ورود روايات متضاربة وغير متَّسقة مع بعضها البعض، كما يصادف وجود منقولات لا تتَّفق مع طبائع الأمور، وقد يجد مبالغات لم يرِدْ عليها دليلٌ تاريخيّ، من قبيل: ما قيل في أحد المقاتل المتأخِّرة عن يوم الطفّ بأنّه كان يوماً غير طبيعيّ، حيث امتدّ إلى أكثر من سبعين ساعة!([1])؛ أو أن الجيش الأمويّ كان يتكوَّن من أكثر من مليون ونصف مقاتل!([2])؛ أو أنّ الإمام الحسين× قتل أكثر من عشرة آلاف فارس وراجل!([3])؛ بل نسب إلى (أسرار الشهادة) أنّه قتل ثلاثمائة ألف رجل!([4]).
وقد نقد الخطيب الحسيني الراحل الشيخ الوائلي في تجاربه ذلك، وذكر بأنّ ذبح عشرة آلاف دجاجة من قبل ذابحٍ ماهر تستغرق حوالي خمسين ساعة، إذا افترضنا أن ذبح كلّ دجاجة يحتاج إلى ربع دقيقة!([5]).
ومن جهة أخرى نجد أنّ بعض مصادر التاريخ تروي أن الحسين× عرض على عمر بن سعد أن يذهب إلى يزيد بن معاوية، فيضع يده في يده!([6])، وفي نفس الوقت تروي عن عقبة بن سمعان، وهو أحد الناجين من القتل، ما يكذِّب ذلك([7]).
وتروي أن رأس الحسين× وضع أمام يزيد، وكان ينكت ثغره بقضيب([8])، وفي نفس الوقت تروي بأن يزيد بن معاوية لمّا وضع رأس الحسين بين يديه كان يبكي، وقال: لو كان بينه وبينه رحمٌ ما فعل هذا، يعني بذلك واليه على الكوفة ابن زياد!([9])، وأنه كان يلعن ابن زياد، ويقول: كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين، ويترحَّم على الحسين([10]).
ومثل هذه الروايات لا يمكن قبولها كما هي، فلابدّ من تمحيصها وغربلتها، وتقديم تفسير لها ينسجم مع الوضع الاجتماعيّ والسياسيّ آنذاك.
وقد يقوم راوي الخبر أو المؤرِّخ في مرحلةٍ تالية بإيجازه إلى درجةٍ مخلّة بمضمونه، وقد يتمّ تقطيع أوصاله وبتره وتوزيعه على أكثر من مشهد وموقف، ممّا يتطلَّب بحثاً واستقراءً واسعاً في مختلف المصادر؛ لاستكمال حلقاته.
كما لابُدّ من تمحيص الروايات بالمقارنة والموازنة بينها، وعرضها على السياقات الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة العامّة، وملاحظة مدى اتّساقها معها.
أضِفْ إلى ذلك أنّ بعض الأساليب المتَّبعة في عرض السيرة الحسينيّة من قبل بعض القرّاء تؤدّي مع الزمن دوراً شبيهاً بإنتاج نصوص تاريخيّة جديدة، يتمّ التعامل معها تماماً كالنصوص الأصليّة، من كثيرٍ من المتلقّين، ومع مرور الزمن تدرج في بعض كتب المقاتل والسير التي تتسامح في النقل. ويحدث هذا في الغالب عبر التفسيرات التي يعرضها بعض القرّاء في إطار ما يعرف بـ «لسان الحال»، ومن خلاله تتسلَّل إلى بعض الكتابات المتساهلة. كما أن الاستيحاءات الأدبيّة والمبالغات الشعريّة، وما يرافقها من الأساليب المجازيّة والمشاهد الفنّيّة والصور التخيُّليّة، ولا سيّما في الشعر الشعبيّ، والتي يعرضها بعض القرّاء كوقائع وحوادث، توحي للمستمع والمتلقّي أنّها معلومات تاريخيّة. وهو ما يؤدّي إلى تضخُّم الوقائع، وتعارضها، وعدم اتّساقها، وافتقادها إلى التماسك المنطقيّ، ويقود في النهاية إلى إرباك الذاكرة حيالها.
وإنّ البحث في التاريخ الإسلاميّ ليس مجرّد بحث من أجل البحث، بل يستهدف التوصُّل إلى النتائج السليمة المرضية، التي تساعد على استنتاج العظات والعبر منها، حتّى تنير الطريق أمام الأجيال للتبصُّر والإفادة من تجارب الماضين، والاقتداء بسير الأنبياء× والأوصياء والأولياء الصالحين.
وكما أسلفنا فإنّ واقعة كربلاء ليست بدعاً من الوقائع من هذه الناحية، ثم إن الأهمّيّة التي تحتلها في قلوب المسلمين تجعلها موضع عناية دائمة ومستمرة؛ للوصول إلى معرفة حقائقها وتفاصيلها.
ولهذه الأسباب وغيرها يغدو البحث التحليليّ النقديّ في غاية الأهمّيّة؛ إذ لا يمكن التسليم بالأخبار المتضاربة، كما لا يمكن الركون إلى التعليلات التي لا تتَّفق مع السنن وطبائع الأشياء.
والتحليل النقديّ ليس عملاً اعتباطيّاً أو مزاجيّاً، بحيث يقوم الباحث بإسقاط آرائه الشخصيّة أو فرض استحساناته الذاتيّة على البحث، فيقرر صوابيّة ما يروق له، ويبعِّد ما لا يتَّفق مع اتّجاهاته وميوله، وإلاّ لم يفترق الحال بينه وبين أولئك الذين تلاعبوا بالروايات والأخبار في مراحل الرواية الشفويّة والتدوين التاريخيّ الأوّل. إنّما لابدّ من اتّباع المنهج العلميّ، وتحكيم القواعد المستخدمة في البحث التاريخيّ، والتي سبقت الإشارة إلى بعضها. وليس معنى ذلك أن تنتهي جميع التحليلات إلى نتائج موحَّدة، بل ربما تتقارب أحياناً، أو تتفاوت وتتباعد أحياناً أخرى، كما هو شأن البحث في العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة والفلسفيّة، وكذلك الدينيّة.
بحوث تحليليّة ونقديّة حول واقعة كربلاء لقد أُلِّفت مجموعة من الكتب والبحوث التحليليّة النقديّة حول حركة الإمام الحسين×، ولا سيما في عصرنا الحالي.
ومن الكتب التي يمكن الإشارة إليها في هذا المضمار كتاب (ثورة الحسين: ظروفها الاجتماعيّة، ونتائجها الإنسانيّة)، للشيخ محمّد مهدي شمس الدين. وهو كتاب تحليلي اجتماعيّ وسياسيّ، كما يعبِّر عنه عنوانه بالفعل.
وله أيضاً كتاب (أنصار الحسين).
ومنها: كتاب (الشهيد والثورة)، للسيد هادي المدرسي، الذي مزج فيه الكاتب بين أسلوب التحليل وسلاسة العرض ووضوحه.
و(الملحمة الحسينيّة)، للشيخ مرتضى مطهَّري، وهي عبارة عن محاضرات وكلمات ألقاها في حياته، وقد جُمعت بعد استشهاده، وطبعت في كتاب ترجم إلى العربيّة بعنوان (الملحمة الحسينيّة). وقد أثار ضجّةً وجدلاً حول بعض مضامينه النقديّة الصادمة.
وقد طرح السيد جعفر مرتضى العامليّ مجموعة من التساؤلات والشكوك حول مدى صحّة نسبة جميع ما ورد فيه إلى مطهَّري، وذلك في كتابه (عاشوراء فوق الشبهات).
وللسيد محمّد الصدر كتاب (أضواء على ثورة الحسين)، تطرَّق فيه إلى كثير من الأسئلة التي تطرح على الواقعة وطبيعتها وأهدافها، وتطرَّق فيه إلى بعض الحكايات التي يطرحها الخطباء، كما قدَّم مجموعة من التوجيهات للخطباء والقرّاء.
وللشيخ محمّد مهدي الآصفي كتاب من خمسة أجزاء بعنوان (في رحاب عاشوراء)، وهو يمزج فيه بين السرد والتحليل التاريخيّ واستيحاء القيم التربويّة والرساليّة من حركة الحسين×.
ومن الملاحَظ بأنّ بعض الكتب المذكورة أعلاه اعتمدت على بعض الأخبار الواردة في بعض المراجع المتأخِّرة.
كما نشرت (مجلّة نصوص معاصرة) في عددَيْها الثامن والتاسع، سنة 1428هـ، بحثَيْن، للشيخ محمّد السردرودي: أحدهما بعنوان (التحريف في السيرة الحسينية، دراسة في المظاهر والأشكال)؛ والثاني بعنوان (السيرة الحسينيّة، المصادر والمراجع، دراسة في المستندات التاريخيّة). وقد اشتمل البحثان على مجموعة من الآراء النقديّة للباحث حيال عدد من الوقائع التي يطرحها الخطباء في العادة.
و قفة مع بعض آراء الشيخ السردرودي يظهر من خلال متابعة سيرة الباحث المذكور، وبعض أعماله، بالإضافة إلى البحثَيْن المذكورين، أن المؤلِّف باحثٌ متتبِّعٌ، وله أكثر من دراسة وتحقيق حول واقعة الطفّ ونصوصها وأخبارها ومصادرها. ويبدو من النظر في بعض بحوثه السالفة أنّه من المهتمّين بتنقية السيرة الحسينيّة من الشوائب والزيادات، ومن المنافحين عن القضيّة الحسينيّة. ولعلّ من نافل القول التنويه إلى أن الدراسات النقديّة العلميّة للتاريخ والسيرة مطلوبة، وتحظى بأهمّيّة؛ لإسهامها في غربلة المادة التاريخيّة وتنقيتها من الشوائب والزيادات، ونقلها إلى الأجيال صافيّة نقيّة. وإن الجهود البحثيّة التي بذلها الباحث السردرودي مقدَّرة، ولكنْ يُلاحَظ من متابعة الأمثلة التي أوردها من الكتب المتأخِّرة على أنّها نماذج من التحريف ـ حسب تعبيره ـ في السيرة الحسينيّة أنه لم يبيِّن لنا في أكثرها مستنده أو تعليله لاعتبارها محرَّفة أو موضوعة، كما لم يوضِّح ما هو معيار الوضع عنده، بل أرسل أحكامه عليها إرسال المسلَّمات. ثم ماذا يقصد من التحريف فيها؟ هل زيد فيها ونقص أم أنها مختلقة من الأصل؟ وهل أنّ ذلك في بعضها أو جلّها؟ وما الذي يجعله يعتقد بذلك؟
ومن جهة أخرى يلاحَظ أنّ الكاتب استخدم تعبيرات وأوصافاً متعدِّدة ذات مدلولات متفاوتة على النماذج التي ذكرها، وأصدر أحكاماً بالجملة، وبشكل لا يخلو من تسامح، من قبيل: التحريف والتزييف والتزوير والأسطورة، وكذا الضعيف والمكذوب والموضوع. فلم يميِّز في أحكامه حسب القواعد العلميّة المعروفة في علوم الحديث ـ على الأقلّ ـ بين الضعيف والموضوع والمكذوب.
ومن ناحية ثالثة يظهر أن بعض النماذج، وليس كلّها، التي أوردها الكاتب على التحريف والتزوير، محمِّلاً مسؤوليّة تحريفها وتزويرها لبعض الكتب المتأخِّرة، مذكورةٌ في جملة من المصادر المتقدِّمة على هذه الكتب، ولا نعرف سبب إغفال الكاتب ذلك، مع أنّه باحثٌ ومتتبِّع.
قد يُقال: إنّ ورودها في كتب متقدِّمة لمؤلِّفين موثوقين لا يعني وثاقة الكتب وصحّة كل ما فيها. وهذا مبدأ صحيح ومسلَّم به. ولكنّ هذا لا يسوِّغ إغفال ذكرها، مع أنها أوردت تلك الحوادث، بل الأمانة العلميّة تقتضي الإشارة إليها، بدل التصريح المتكرِّر بأنها من تحريف وتزييف ووضع الكتب المتأخِّرة.
وعلى صعيد آخر فإنّ تحشيد الشواهد على التحريف والتزييف والكذب ـ حسب وصف الكاتب ـ بهذه الطريقة المتسامحة قد يوحي للقارئ بأنّ جُلّ ما يطرح على المنابر وكتب السيرة لا أصل له، ولا سند، ولا مصدر. مع أن الأمر ليس كذلك، ولا سيّما أنّ الكاتب ما برح يردِّد عبارات توصل إلى هذه النتيجة، ممّا يولِّد الشكّ في معظم حوادث واقعة كربلاء لدى الكثيرين، ولا سيّما الذين لا يتاح لهم البحث والتمحيص فيها.
أسسٌ مقترحةٌ لمناقشة بعض الآراء النقديّة وقبل الشروع في هذه الوقفات مع بعض الآراء التي نشرت في الفترة الأخيرة من المهمّ من الناحية المنهجيّة وضع بعض الأسس المعياريّة، التي يمكن بالاستناد عليها مناقشة البحوث والآراء النقديّة في مثل هذه الموضوعات، وذلك على النحو التالي:
1ـ الاستناد في نقل الوقائع على مصادر الحديث والتاريخ والسيرة والتراجم المعروفة المعتمدة، مع إمكانيّة إخضاعها للنقد والتمحيص.
2ـ التوقُّف أو التدقيق في ما انفردت بنقله الكتب المتأخِّرة من دون إحالة إلى أيٍّ من المصادر المتقدِّمة، إلاّ إذا كانت على نحو التأييد.
3ـ ردّ كلّ ما يتعارض من الأخبار مع عصمة أهل البيت^ وقدسيّتهم وكرامتهم.
4ـ عدم قبول ما يتعارض مع المعقول والسنن الطبيعيّة، في غير دائرة الخوارق الإعجازية الثابتة.
5ـ إنّ النتائج الاجتهاديّة والتحليليّة قابلة للأخذ والردّ والاختلاف.
نظرة في بعض النماذج التي ذكرها الباحث سردرودي يمكن تصنيف أمثلة الكاتب في هذا المضمار إلى قسمَيْن:
الأوّل: ما لم يَرِدْ في مصدرٍ تاريخيّ وقد سبق لبعض العلماء المتتبِّعين والمدقِّقين أنْ نبَّه إليها، من قبيل: حضور السيدة ليلى أمّ عليّ الأكبر واقعة كربلاء، وما ينسب إليها من حكايات. فإنّ جملة من العلماء المحقِّقين، كالشيخ النوري والشيخ عباس القمي والسيد المقرَّم والشيخ مطهَّري، سبقوا إلى التنبيه إلى ذلك؛ استناداً إلى عدم ورود ذلك في أيّ مصدرٍ تاريخيّ يمكن التعويل عليه. ولا يقال هنا بأنّ عدم الوجدان لا يدلّ على عدم الوجود؛ لأنّنا لسنا في صدد بحث قضايا نظريّة مجرَّدة، أو بحث قضايا الإمكان والامتناع من منظور مجرَّد. إننا في مضمار البحث التاريخيّ الفعليّ، والتحقُّق من الحدث التاريخيّ من جهة الوقوع، استناداً إلى الوثائق والأخبار والروايات الواردة في أمّهات كتب التاريخ. وإنْ كان السيد جعفر العامليّ في كتابه (كربلاء فوق الشبهات) قد حاول جاهداً أن يستنتج من بعض القرائن أنّها حضرت الواقعة([11]) فإنّ الشيخ القمّي حسم الموقف في هذه القضية، بقوله في كتابه (منتهى الآمال): «الظاهر عدم حضورها هناك، ولم أجد في الكتب المعتبرة شيئاً، وأمّا ما اشتهر من أنّ الحسين× جاء إلى أمّ عليّ الأكبر بعد ذهابه إلى الميدان، وقال لها: قومي وادعي لولدك…إلخ، فإنّه كذبٌ محضٌ من أوّله إلى آخره، كما قاله شيخنا النوريّ»([12]).
ومنها: مسألة عرس القاسم بن الحسن×. وهذه المسألة تطرَّق إليها بعض العلماء، وأكَّدوا على عدم صحّتها. قال القمّي في (المنتهى): «لا يخفى عليكم عدم صحّة قصة عرس القاسم، وأنّه تزوَّج فاطمة بنت الحسين في كربلاء؛ لعدم وجودها في الكتب المعتبرة»([13]). وقال المقرَّم في (المقتل): «كلّ ما يُذكَر في عرس القاسم غير صحيح؛ لعدم بلوغه سنّ الزواج، ولم يَرِدْ به نصٌّ صحيحٌ من المؤرِّخين»([14]).
ومنها: مسألة أنّ السيدة زينب÷ نطحت جبينها بمقدم المحمل. وقد ذكرها القمّي في (نَفَس المهموم)، نقلاً عن (البحار)، عن أحد الكتب المعتبرة، مرسلاً([15]). ويلاحظ أنّ الكتاب المذكور مجهول المؤلِّف، وإنْ وُصِف بالمعتبر. وجاء في إحدى مقدّمات (المجالس السنّيّة) أنّها من انتحال بعض الجهّال([16]).
ويذكر السردرودي أن الشيخ القمّي استدرك في (المنتهى)، وقال: «لا يوجد ذكر المحمل إلاّ في في خبر مسلم الجصّاص، وهذا الخبر وإنْ نقله العلاّمة المجلسيّ، لكنّ مستنده هو كتاب (منتخب الطريحي) وكتاب (نور العين). ولا يخفى على أهل الخبر والفنّ في علم الحديث حال الكتابَيْن المذكورَيْن، ونستبعد القول بأنّ زينب نطحت جبينها بمقدَّم المحمل حتّى سال الدم»([17]). ويلزم التنويه إلى أنّي لم أعثر على هذه العبارة بعد البحث في عددٍ من الفصول المناسبة في النسخة العربيّة من كتاب (منتهى الآمال)، للقمّي، بترجمة وتحقيق: السيد هاشم الميلاني، وتقديم: السيد جعفر العامليّ، الطبعة الأولى، دار الجوادين!
الثاني: نماذج لم يتَّضح لنا سبب اعتبارها محرَّفة ذكر الكاتب تسعة كتب كنماذج لتكريس التحريف والتزييف في السيرة الحسينيّة. وجُلّ هذه الكتب كتبت في العصور المتأخِّرة، ولا تعتبر من المصادر الأوّليّة، بل ربما صنفت كمراجع ثانويّة أو كأيّة كتب تطرَّقت إلى الواقعة. ولسنا هنا في صدد تقييمها أو تبرير ما أوردته، فهذا خارج عن غرض هذه المقالة. بل إنّ بعض العلماء وجَّه نقوداً قويّة إلى بعضها؛ نظراً لتساهلها في النقل. وقد أشار الكاتب إلى آراء بعضهم. ويبدو أنّها من الكتب الرائجة، والتي يعتمدها كثيرٌ من الخطباء والقرّاء، مثل: المنتخب المعروف بالفخري، وأسرار الشهادة، والدمعة الساكبة، ومعالي السبطين، وروضة الشهداء، وغيرها. ونظراً لاعتماد كثيرٍ من خطباء المنابر عليها فقد غَدَتْ مرجعاً يتلقّى منه الجمهور المادّة التاريخيّة الكربلائيّة. ولعل هذا ما جعل الكاتب يركِّز جهده عليها، ويوجِّه نقده إليها.
غير أنّ ما نودّ أن نلفت النظر إليه هنا هو أنّ الكاتب أورد بعض النماذج التي لم يتَّضح لنا سبب إدراجها ضمن قائمة التحريف والتزييف. وفي ما يلي نذكر بعضها على سبيل المثال فقط:
أـ اختلاق شهيد نسب في القسم الثاني من بحثه حول المصادر والمستندات إلى كتاب (تظلُّم الزهراء÷) جملةً من الأخبار المزيَّفة، منها: اختلاق شهيدٍ باسم وهب بن عبد الله بن حباب الكلبيّ. وساق جملةً من الأخبار التي وصفها بالموضوعة والأحاديث الضعيفة من كتاب (معالي السبطين)، منها ما يتعلق بالشهيد المختلَق وهب، واعتبره من المختلَقات والموضوعات في كتاب (ناسخ التواريخ)([18]). والواقع أنّ جملةً من المصادر الحديثيّة والتاريخيّة المعتبرة ذكرت وهب في عداد الشهداء، منها: أمالي الصدوق([19])، ومقتل الخوارزمي([20])، واللهوف لابن طاووس([21]). كما أن بعض العلماء المدقِّقين، ممَّن أشاد الكاتب بحقٍّ بجهودهم الإصلاحيّة في هذا المجال، كالسيد محسن الأمين والشيخ عباس القمّي([22])، قد ذكروا وهب الكلبيّ بين أبطال كربلاء المستشهَدين. نعم، استظهر السيد الأمين في (لواعج الأحزان) وقوع خلط من المؤرِّخين بين قصّة وهب الكلبيّ وعبد الله الكلبيّ قاتل يسار وسالم([23])، بينما رجَّح الشيخ شمس الدين في (أنصار الحسين) بأنّه ابنٌ لأمّ وهب زوجة عبد الله بن عمير الكلبيّ، وأنّ المرأة التي قُتلت يوم كربلاء هي أمّ وهب([24]).
وعليه لا معنى لنسبة القصّة إلى التحريف والاختلاق بهذه الطريقة، وإنْ كان هناك ثمّة اختلاق فمن أهل الأخبار السابقين، وليس الكتب المذكورة.
ب ـ هل من ناصرٍ ينصرني قال في بحث التحريف في السيرة الحسينيّة: إنّ القرّاء؛ لكي يدرّوا الدمعة، اختلقوا هذا النصّ، ولا نجد مثله، ولا قريباً منه، في المصادر المعتمدة المعترف بها([25]). وفي القسم الثاني نسبه إلى تحريفات منتخب الطريحي([26]). في حين أنّ جملةً من المصادر المعتمدة روت هذا المضمون عن الإمام الحسين×.
ففي مقتل الخوارزمي عن أبي مخنف([27])، وذكره ابن طاووس مختصراً، واللفظ للأوّل: إن الحسين لما قُتل ما ينيف على خمسين رجلاً من أصحابه، ضرب بيده على لحيته، وقال: اشتد غضب الله على اليهود والنصارى؛ إذ جعلوا له ولداً… واشتدّ غضب الله على قومٍ اتَّفقت آراؤهم على قتل ابن بنت نبيّهم، واللهِ، لا أجيبهم إلى شيء ممّا يريدونه أبداً حتّى ألقى الله وأنا مخضَّب بدمي، ثم صاح: «أما من مغيث يغيثنا لوجه الله تعالى؟ أما من ذابٍّ يذبّ عن حرم رسول الله؟ فلمّا سمع الحُرّ هذا الكلام اضطرب قلبه…»([28]). كما ذكر الخوارزمي استغاثةً أخرى للحسين، وهي: لمّا قتل الجميع، ولم يبقَ غيره والإمام زين العابدين، نادى: «هل من ذابٍّ يذبّ عن حرم رسول الله؟ هل من موحِّد يخاف الله فينا؟ هل من مغيث يرجو الله في إغاثتنا؟ هل من معينٍ يرجو ما عند الله في إعانتنا؟»([29]). وذكر مثله السيد الأمين في (لواعج الأحزان)([30]). ونقل مثله القرشيّ عن (درر الأفكار في وصف الصفوة الأخيار)، لأبي الفتح بن صدقة([31]). ونقل عن (الحدائق الورديّة)، لليمانيّ، بأنه إثر ذلك مال الأنصاريّان من معسكر الأمويّين إلى معسكر الحسين، وقاتلا حتى قُتلا([32]). وقد ذكر بعض العلماء، كصاحب (الخصائص)، أن الحسين كانت له عدّة استغاثات. وأطلق السيد المقرَّم عليها عنوان «استغاثة وهداية»([33]).
ج ـ اسقوني شربةً من الماء ذكر هذه العبارة في القسم الثاني من بحثه حول المصادر والمستندات بين تحريفات كتاب (المنتخب)، وموضوعات كتاب (ناسخ التواريخ). واعتبرها ملائمةً للشريحة التي تقرأ كلّ الوقائع للحزن والبكاء. وأكَّد أنّ العبارة مختَلَقةٌ لا سند لها. وعلَّل رفضه لها بأنّها تعبِّر عن موقفٍ ذليل لا يتلاءم مع الروح الحسينيّة التي عُرف بها سيّد أباة الضيم وإمام العزّة وأبو الأحرار([34]). وتوسَّع في بحثه الخاصّ بالتحريف في السيرة، فأورد مسوِّغاته التي في ضوئها اعتبرها من المختلَقات على سيّد الشهداء، ومنها: أنّها لم تَرِدْ في أيّ كتاب معتبر أو شبه معتبر، ووردت في بعض الكتب الطافحة بالكذب، والتي تهيمن عليها مسألة إبكاء السامعين؛ وأنّ النصّ نفسه شاهدٌ على جعله؛ وأنّه لا ينسجم مع أبي الأحرار وسيّدهم، الذي قال: «هيهات منّا الذلّة»، أنْ يترجَّى من القتلة أن يسقوه بحقّ جدّه! وذكر عدّة أمثلة ضمن سياقات تضع الإمام الحسين في موضع الملتمس والمترجّي المستعطف، قائلاً لعمر بن سعد: أخيِّرك في ثلاث خصال: تتركني أرجع إلى المدينة، فرفض، قال: اسقوني شربةً من الماء فقد نشفت كبدي من الظمأ، فرفض، فقال: ليبرز إليّ رجل رجل، فوافق! وأحالها الكاتب في الهامش على (المنتخب)، و(أسرارالشهادة)، و(روضة الشهداء)، وغيرها.
واستشهد الكاتب برأي الشيخ مطهَّري بأنّه كلّما بحث في المقاتل لم يجد هذه الجملة المنسوبة إلى الإمام الحسين. نعم، هناك موضعٌ واحدٌ ذكر فيه بأنه كان يطلب الماء، والقرائن تشير بأنّ المقصود منه توجُّهه نحو الفرات بحثاً عن الماء، لا طلبه منهم([35]).
والواقع أنني أتَّفق مع الكاتب بأنّ مثل هذه المشاهد لا تتَّفق مع سائر مواقف الإمام الحسين وكلماته×. ولم أعثر عليها أثناء بحثي في مجموعة من المصادر الحديثيّة والتاريخيّة، بالإضافة إلى عددٍ من المقاتل المعتمدة. ويحسن هنا التنويه إلى المبدأ الذي أكَّد عليه الشيخ عبّاس القمّي ضمن نصائحه العشرين التي وجَّهها إلى الخطباء في (نفثة المصدور)، حيث قال: «أن لا يقول ما يشعر بذلّة أبي عبد الله الحسين وأهل بيته^؛ فإنه كان سيّد أهل الإباء والحميّة، الذي علَّم الناس الموت تحت ظلال السيوف اختياراً له على الدنيّة»([36]).
ولكنْ يبدو أنّ واقعة استسقاء الحسين الماء واقعة لها أصلٌ في بعض المصادر، وقد تمّ تحويرها بالشكل المذكور، ربما انسياقاً مع الأغراض العاطفيّة التي نوَّه إليها الكاتب. فقد ورد في (اللهوف)، ومثله عن (مثير الأحزان)، لابن نما، كما نقل عنه السيد المقرَّم([37])، وذكره السيد الأمين في (اللواعج) و(المجالس)([38]). وحسب اللهوف: عن هلال بن نافع، قال: إنّي لواقفٌ مع أصحاب عمر بن سعد إذ صرخ صارخٌ: أبشر أيّها الأمير، فهذا شمر قد قتل الحسين، قال: فخرجتُ بين الصفَّيْن، فوقفتُ عليه، فإنّه ليجود بنفسه، فواللهِ، ما رأيتُ قتيلاً مضمَّخاً بدمه أحسن منه، ولا أنور وجهاً، ولقد شغلني نور وجهه وجمال هيئته عن الفكر في قتله، فاستسقى في تلك الحال ماءً، فسمعتُ رجلاً يقول له: واللهِ، لا تذوق الماء حتَى تَرِدَ الحامية فتشرب من حميمها، فردَّ عليه الحسين قائلاً: لا، بل أَرِدُ على جدّي رسول الله|، وأسكن معه في داره في مقعد صدقٍ عند مليك مقتدر، وأشرب من ماءٍ غير آسن، وأشكو إليه ما ارتكبتم منّي وفعلتم بي([39]). فالرواية هنا تشير إلى أنّه استسقى في تلك الحال ماءً، أي طلب أن يسقوه ماءً، وهو في موقفٍ لا يقوى فيه على القتال. وهذا الموقف مختلفٌ عن الموقف الذي ذكره مطهَّري، والذي كان أثناء القتال. وقد رواه الخوارزمي في مقتله بالفعل، عندما دعاهم الإمام الحسين× أن يكفّوا عن التعرُّض لحرمه، ويقاتلوه هو، قال: «فقصده القوم بالحرب من كلّ جانب، فجعل يحمل عليهم ويحملون عليه، وهو في ذلك يطلب الماء ليشرب منه شربةً، فكلَّما حمل بفرسه على الفرات حملوا عليه…»([40]). وروى مثله الطبريّ باختلافٍ يسير، حيث ذكر أنّ حسيناً حين غلب على عسكره ركب المسنّاة يريد الفرات، قال: فقال رجلٌ من بني أبان بن دارم: ويلكم، حولوا بينه وبين الماء، لا تتام إليه شيعته…([41]). وفي رواية عن جابر الجعفيّ قال: عطش الحسين حتّى اشتدّ به العطش، فدنا ليشرب من الماء، فرماه حصين بن تميم بسهمٍ فوقع في فمه، فجعل يتلقّى الدم من فمه، ويرمي به إلى السماء، ثم حمد الله وأثنى عليه، ثم جمع يديه، ودعا عليهم([42]).
وأيّاً كان فإنّ منع الجيش الأمويّ الماء عن معسكر الحسين وعياله وأطفاله كان يشكِّل فصلاً مهمّاً من فصول واقعة كربلاء.
ونستنتج ممّا سبق أنّ الروايات التاريخيّة تذكر مواقف ملحميّة قتاليّة من معسكر الإمام الحسين؛ من أجل الوصول إلى الماء في مختلف المراحل. كما تذكر بعض المصادر، كـ (اللهوف)، أنّ الإمام الحسين× استسقى الماء عندما كان صريعاً يجود بنفسه.
والواقع أن استسقاء الإمام الحسين الماء في تلك الحال ليس من الضعف أو الذلّة في شيء، بل إن هذا الموقف يكشف عن حقيقة القوم، وأنّهم لم يراعوا حرمةً، ولا قيمة إنسانيّةً، إلاّ انتهكوها، وهو مشهدٌ صارخ من مشاهد الظلامة التي وقعت على أهل البيت^، بحيث لا يختلف اثنان عبر التاريخ على بشاعتها وشناعتها. وتجدر الإشارة إلى أنّ الناقد السردرودي أثنى كثيراً على كتاب (اللهوف)، واعتبره من الكتب القيِّمة الهامّة([43]). وهو بحقٍّ مرجعٌ مهمٌّ في هذا الحقل، وإنْ كان هذا لا يعني أنّه فوق النقد، كما ألمح الكاتب أيضاً([44]).
د ـ طلب الأسرى المرور بالقتلى عند مغادرة كربلاء ذكر الكاتب ضمن الوقائع المزيَّفة التي عرضها النجف آبادي أنّ طلب الأسرى المرور على أجساد الشهداء أمرٌ لا سند له. وقد ورد في كتاب (أسرار الشهادة)، الذي كثر فيه الكذب([45]). بينما نجد أنّ السيد ابن طاووس أوردها في (اللهوف)، عن النسوة، قلنَ: بحقِّ الله إلاّ ما مررتم بنا على مصرع الحسين، فلمّا نظر النسوة إلى القتلى صحنَ وضربنَ وجوههنّ([46]). وقد ذكره السيد الأمين في (اللواعج)([47]). ويؤيِّده ما رواه الطبريّ عن قرة بن قيس: نظرتُ إلى تلك النسوة لمّا مررنَ بحسينٍ وأهله وولده صحنَ ولطمنَ وجوههنّ. ولا أنسى قول زينب ابنة فاطمة، حين مرَّت بأخيها صريعاً، وهي تقول: يامحمّداه، يامحمّداه، صلّى عليك ملائكة السماء، هذا الحسين بالعراء، مرمَّلٌ بالدماء، مقطَّع الأعضاء، يامحمّداه، وبناتك سبايا، وذرّيّتك مقتَّلة، تسفي عليها الصبا…إلخ([48]). وذكر مثله الخوارزمي في مقتله([49]). وفي (كامل الزيارات)، ممّا رواه أحد تلامذة ابن قولويه، وأدرجه في الكتاب عن الإمام السجّاد، في رواية طويلة، ومنها: «وحملت حرمه ونساؤه على الأقتاب، يُراد بنا الكوفة، فجعلت أنظر إليهم صرعى، ولم يوارَوْا، فيعظم في صدري…إلخ»([50]).
هـ ـ دفن الإمام عليّ بن الحسين× للأجساد ذكر في القسم الثاني ضمن نماذج التزوير التي كشفها السيّد الأمين قضيّة مجيء الإمام السجّاد× من الكوفة إلى كربلاء؛ لدفن جسد أبيه مع بني أسد([51]).
والواقع أن هذه القضيّة ناقش فيها بعض العلماء، كالسيد المرتضى في (رسائله)، وخالفه السيد شبر في (مشكلات الأخبار). وبالفعل فقد نفى السيّد الأمين ذلك([52])؛ استناداً إلى ما جاء في بعض المصادر، كـ (الإرشاد)([53])، و(اللهوف)، من أنّ قوماً من بني أسد صلّوا عليها ودفنوها([54]). ولكنْ قال الشيخ عبّاس القمّي في (نَفَس المهموم): إنّه قد ثبت أنّ الإمام لا يلي أمره إلاّ الإمام، ولا يغسِّله إلاّ الإمام. وورد عن الإمام الرضا× أنّه احتجّ على أقطاب الواقفة، كالبطائني، حين قال له: إنّا روينا عن آبائك أنّ الإمام لا يلي أمره إلاّ إمام مثله، فردّ عليه الإمام الرضا×: فأخبرني عن الحسين كان إماماً أو غير إمام؟ قال: كان إماماً، قال: فمَنْ ولي أمره؟ قال: عليّ بن الحسين، قال: وأين كان عليّ بن الحسين؟ قال: كان محبوساً في يد عبيد الله بن زياد في الكوفة، قال: خرج وهم كانوا لا يعلمون حتّى ولي أمره، ثم انصرف، فقال له الإمام الرضا: إن مَنْ أمكن عليّ بن الحسين أن يأتي كربلاء فيلي أمر أبيه فهو أمكن صاحب هذا الأمر أن يأتي بغداد فيلي أمر أبيه، ثم ينصرف، وليس في حبس ولا أسارة ([55])، كما ورد في رجال الكشّي.
كما أن السيد مرتضى العسكريّ نقل عن (إثبات الوصيّة): «أقبل زين العابدين في اليوم الثالث عشر من المحرَّم لدفن أبيه»([56]).
نعم، أشار الشيخ القمّي في (نَفَس المهموم) إلى أنّه ليس في الكتب المعتبرة كيفيّة دفن الحسين ومَنْ قُتل معه مفصَّلاً…إلخ([57]). ومنه يتَّضح أنّ الخلاف في المسألة دينيّ وتاريخيّ.
و ـ مجيء العائلة إلى كربلاء، ولقاء جابر الأنصاريّ أشار في القسم الثاني من بحث المصادر والمراجع إلى أنّ من التحريفات التي أسَّس لها كتاب (نور العين)، وهو لمؤلِّف مجهول على التحقيق، أن عيال الحسين لمّا بلغوا العراق قالو للدليل: مُرَّ بنا على طريق كربلاء…إلخ، وأدرجه ضمن الأخبار المزيَّفة لكتاب (تظلُّم الزهراء)، وأنه من موضوعات (ناسخ التواريخ)، وذكره ضمن الروايات المختلَقة التي فضحها الشيخ النوريّ، ومن التحريفات التي كشفها الشيخ مطهَّري في (الملحمة الحسينيّة)؛ وذلك أنّ طريق الشام لا يمرّ عبر كربلاء مطلقاً. وأن السيد ابن طاووس ذكره في (اللهوف)، واستبعده في (الإقبال)، وكذلك استبعده الشيخ القمّي في (المنتهى)([58]). على أنّي لم أجد رأيه في الطبعة المترجَمة المشار إليها.
والواقع أنّه تعدَّدت الأخبار والآراء في هذه القضية، غير أن أهمّها ما يلي:
الأوّل: ذكر السيد ابن طاووس في (اللهوف) أنّه روي أنّه لمّا رجع نساء الحسين× وعياله من الشام، وبلغوا العراق، قالوا للدليل: مُرَّ بنا على طريق كربلاء، فوصلوا إلى موضع المصرع، فوجدوا جابر بن عبد الله الأنصاريّ وجماعة من بني هاشم ورجالاً من آل الرسول قد وردوا لزيارة قبر الحسين×…إلخ([59]).
وقريبٌ منه ورد في (مثير الأحزان)، لابن نما الحلّي، كما ذكر السيد المقرَّم في (مقتله)، والشيخ عباس القمّي في (نَفَس المهموم)([60]).
كما أن الشيخ الصدوق روى عن فاطمة بنت عليّ أنّ الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين خرج بالنسوة من الشام، وردّ رأس الحسين إلى كربلاء([61]).
ويلاحظ هنا أنّ المصادر السالفة لا تحدِّد تاريخاً معيَّناً لوصولهم إلى كربلاء.
ونقل الشيخ باقر القرشيّ مضمونه في حياة الإمام الحسين، عن تفسير المطالب والحدائق الورديّة، لليماني([62]).
أمّا السيد محسن الأمين فقد نقل في (اللواعج)، عن بشارة المصطفى وغيره، وكذا في (رحاب أهل البيت)، قصّة مفصَّلة عن ورود جابر مع عطيّة العوفي، واغتساله من الفرات، وزيارته للحسين، وطلوع سواد من جهة الشام معهم زين العابدين مع عمّاته وأخواته…إلخ.
ويظهر أنه دمج القصّتين تماماً بنفس أسلوب الخطباء([63]).
وتجدر الإشارة إلى أنّ واقعة ورود جابر الأنصاريّ ذكرها جملةٌ من العلماء، كالمفيد في (المسار)، والشيخ الطوسي في (المصباح). كما رواها مفصَّلة كلٌّ من أبي جعفر الطبريّ من علماء الإماميّة في القرن الخامس في (بشارة المصطفى)، وأبو الموفَّق الخوارزمي في (مقتله)، بسندَيْهما عن الأعمش، عن عطيّة العوفيّ([64]).
ويؤيِّد ذلك أن بعض العلماء والمؤرِّخين، من الإماميّة وغيرهم، نصّوا على أنّ رأس الحسين× أُعيد إلى جسده بعد أربعين يوماً. فقد أشار السيد المقرَّم في (مقتل الحسين) إلى أنّ الفيلسوف والمؤرِّخ أبا الريحان البيرونيّ(440هـ) في (الآثار الباقية) ذكر بأنه في العشرين من صفر رُدَّ رأس الحسين إلى جثّته، حتّى دُفن مع جثّته([65]). ونقل السيد المقرَّم مثله عن سبط ابن الجوزي في (تذكرته)، وكذا عن زكريّا بن محمّد الأنصاري القزويني (682هـ)، صاحب (عجائب المخلوقات)، وكذا عن عبد الله بن محمّد الشبراوي الشافعيّ في كتابه (الإتحاف بحبّ الأشراف). كما أكَّد جملة من علماء الإماميّة، كالمرتضى والطوسي وابن شهرآشوب والطبرسي وغيرهم، أنّ رأسه الشريف أُعيد إلى بدنه في كربلاء. وهذا الرأي هو السائد، ويتبنّاه خطباء المنبر الحسينيّ. ومن جهة أخرى يؤكِّد السيد ابن طاووس على رجوع الرأس إلى الجسد؛ بالاستناد إلى قوله تعالى: ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾، ولكنَّه يؤكِّد في نفس الوقت على عدم ورود تفاصيل حول كيفيّة ذلك وتوقيته([66]).
الثاني: ما ذكره الشيخ المفيد في (المسار)، والشيخ الطوسي في (المصباح)، واللفظ للأوّل: «وفي العشرين منه ـ من صفر ـ كان رجوع حرم سيّدنا ومولانا أبي عبد الله الحسين من الشام إلى مدينة الرسول، وهو اليوم الذي ورد جابر بن عبد الله الحرام الأنصاريّt صاحب رسول الله| من المدينة إلى كربلاء؛ لزيارة قبر أبي عبد الله الحسين×، فكان أوّل مَنْ زاره من المسلمين، ويستحب زيارته×»([67]).
وأشار السيد ابن طاووس في (الإقبال) إلى كلا الرأيين، وذكر أنّه وجدهما في بعض المصادر، ولكنّه استبعدهما معاً، سواء من جهة إمكانيّة وصولهم إلى المدينة أو كربلاء في العشرين من صفر، وأسَّس استبعاده على عامل الزمن؛ حيث يلاحظ أن السيد ابن طاووس استبعد وصولهم إلى كربلاء بناءً على أنّ الوقت الذي احتاجه ابن زياد حتّى يحصل على الإذن من يزيد ليحمل إليه السبايا هو عشرون يوماً. مضافاً إلى أنّه روي أنهم أقاموا في الشام شهراً. ولكنَّه لم ينفِ أصل مجيئهم إلى كربلاء أثناء رجوعهم، وقال في ذلك: أمّا جوازهم في عودهم على كربلاء فيمكن ذلك، ولكن ما يكون وصولهم إليها يوم العشرين من صفر؛ لأنّهم اجتمعوا على ما روى جابر بن عبد الله الأنصاريّ، فإن كان جابر وصل زائراً من الحجاز فيحتاج وصول الخبر إليه ومجيئه أكثر من أربعين يوماً، وعلى أن يكون جابر وصل من غير الحجاز من الكوفة أو غيرها([68]).
والواقع أنّ السيد ابن طاووس اتَّبع منهجاً علميّاً دقيقاً في تحليله لهذه الواقعة. ولكنْ يُلاحَظ أنّ تحليله ونتيجته يستندان إلى معطيَيْن قابلَيْن للمناقشة، وهما: أن عبيد الله بن زياد انتظر أمر يزيد حتّى يبعث اليه بالرؤوس والعائلة المسبيّة. ولكن يحتمل أنّه كانت لديه تعليماتٌ مسبقةٌ حولها، أو أنّه قاس الأمر على سوابقه بعد مقتل مسلم بن عقيل. ورغم أنّ بعض المؤرِّخين ذكر ذلك، ولكنْ من الصعوبة التسليم به. فإذا افترض أنّه كتب إلى يزيد يوم العاشر أو الحادي عشر من المحرَّم فإنّ جوابه سوف يصله في نهاية شهر المحرَّم. ومن ثم فإنّه يعني أنّ العائلة المسبيّة مكثت في الكوفة إلى نهاية شهر المحرَّم، وعليه يكون وصول السبايا إلى الشام في الفترة بين العاشر والعشرين من صفر حسب الوقت الذي يستغرقه المسير، وليس في الأوّل من صفر، ولا يكون رجوعهم منها هو في العشرين منه، كما هو المعروف. وهذا ينسجم مع ما نقله الكاتب ضمن الحوادث التي وصفها بالموضوعة أو المكذوبة في كتاب (ناسخ التواريخ). وهذه النتائج لا دليل عليها من التاريخ. كما لم يثبت تاريخيّاً أنّ العائلة المسبيّة مكثت بالشام شهراً كاملاً أو أكثر، كما نقل عن القاضي النعمان، بل لعلّ الوقائع التاريخيّة التي حدثت هناك لا تؤيِّد بقاءهم كلّ هذه الفترة. وعلى أيّة حالٍ فإنّ السيد ابن طاووس لم ينفِ مجيئهم إلى كربلاء من الأصل.
ومن ناحية أخرى إذا كان وصول السبايا من أهل البيت^ إلى الشام في أوّل صفر، كما نقله القمّي في (نَفَس المهموم)، عن (مصباح الكفعمي)، وحكاه عن البيروني في (الآثار الباقية)([69])، وافترض أنهم بقوا هناك حوالي عشرة أيام، فإنّ الأيام المتبقّية ربما تكفي لقطع الطريق والمرور بكربلاء، كما نصّ بعض المؤرِّخين الآنف ذكرهم. إلاّ إذا قيل بأنّ سيرهم وقت الرجوع كان أبطأ، وأنّهم كانوا يسيرون في النهار دون الليل، ممّا قد يحتاج إلى وقتٍ أطول. ومع ذلك فإنّه لا ينفي مجيئهم إلى كربلاء، ولكنْ يكون وصولهم إليها في نهاية شهر صفر.
أمّا ما ذكره الشيخ مطهَّري بأنّ طريق الشام لا يمرّ عبر كربلاء مطلقاً فإن هذا إنْ صحَّ بالفعل، فإنّه لا ينفي كلّ القصّة، فيحتمل أنّهم طلبوا من مسؤول الركب النعمان بن بشير مبكّراً أن يمرّ بهم صوب كربلاء. ثم إنّ هذه الدعوى تحتاج إلى مزيدٍ من الدراسة؛ للتحقُّق منها في الأطالس التاريخيّة، أو في كتب قدامى الجغرافيّين المسلمين.
وأيّاً كان الأمر فبما أنّ الواقعة قابلةٌ للنقاش والأخذ والردّ لا يصحّ اعتبارها محرَّفة ومكذوبة، ولا سيما أنّ هناك من المؤرِّخين والمحدِّثين مَنْ أشار إليها، وهناك شواهد تعزِّزها. ومن جهة أخرى فإنّه ليس بالضرورة ربط واقعة مرورهم بكربلاء ـ إذا صحَّت ـ بتاريخ معيَّن. كما ليس من الموضوعيّة أو الحياد العلميّ اتّخاذ أحد الآراء الخلافية حجّة، والتعامل معه وكأنّه مقياس مسلَّم به؛ لدحض بقيّة الآراء، ووصفها بالمحرَّفة والمزيَّفة والمكذوبة وما إلى ذلك.
ز ـ حول عدد القتلى من الجيش الأمويّ ذكر الكاتب أمثلةً من المبالغات التاريخيّة في قصّة كربلاء، ومنها: مبالغة كتاب (معالي السبطين) في عدد القتلى من الجيش الأمويّ، حيث أوصلهم إلى مائة وخمسين ألف قتيل! وذكر الكاتب أنّ المصادر أجمعت على أنّ عدد القتلى في جيش عمر بن سعد بلغ 88 شخصاً فقط!([70]). وإنني اتَّفق مع الكاتب على وجود مبالغات وزيادات في بعض الكتب المتأخِّرة، وقد سبق التنويه إليها في البداية. وكان الأحرى بالكاتب أن يركِّز عليها في بحثه، ويكشفها للقارئ. ولكنَّنا نستغرب قبول الكاتب لما ذكره بعض المؤرِّخين، كالطبريّ ومَنْ تابعه كابن الأثير وغيره، حول عدد القتلى في الجيش الأمويّ. والأغرب منه أنّ الكاتب قرَّر بأن هناك إجماعاً بين المؤرِّخين على ذلك! مضافاً إلى أنّ هذه المسألة لا تستدعي نقاشاً في نظري، بعد أن شهد القادة والمقاتلون الأمويّون ببسالة معسكر الحسين×. فقد روى المؤرِّخون، كالطبريّ والمفيد وغيرهما، عن عمرو بن الحجاج الزبيديّ، مخاطباً الجيش الأمويّ: أتدرون مَنْ تقاتلون؟ تقاتلون فرسان المصر، وقوماً مستميتين، لا يبرزنَّ لهم منكم أحدٌ، فإنّهم قليل، وقلّما يبقون، واللهِ، لو لم ترموهم إلاّ بالحجارة لقتلتموهم([71]). وفي مقتل الخوارزي أنه قال: إنّما تقاتلون فرسان المصر وأهل البصائر وقوماً مستميتين، لا يبرزنَّ منكم أحدٌ إلاّ قتلوه على قلَّتهم، ولو لم ترموهم إلاّ بالحجارة لقتلتموهم([72]). ووصفهم أحد المقاتلين مع عمر بن سعد، كما نقله ابن أبي الحديد في (شرح النهج): ثارت علينا عصابة أيديها في مقابض سيوفها، كالأسود الضارية، تحطم الفرسان يميناً وشمالاً، وتلقي أنفسها على الموت، لا تقبل الأمان، ولا ترغب في المال، ولا يحول بينها حائل وبين الورود على حياض المنية أو الاستيلاء على الملك، فلو كففنا عنها رويداً لأتت على نفوس العسكر بحذافيرها([73]). وقال عبد الله بن عمّار بن عبد يغوث، وهو يصف الحسين، كما عن الطبريّ: ما رأيتُ مكسوراً قطّ، قد قُتل ولده وأهل بيته وأصحابه، أربط جأشاً، ولا أمضى جناناً، ولا أجرأ مقدماً منه، وإنْ كانت الرجال لتشدّ عليه فيشدّ عليها بسيفه، فتنكشف عن يمينه وشماله انكشاف المعزى إذا شدّ فيها الذئب([74]). وإنّ قائلها ـ حسب المفيد ـ هو حميد بن مسلم، وأنّه قال: ما رأيت مكثوراً قطّ، وهو أكثر اتّساقاً مع مضمون الخبر([75]).
ثم إنّه لو قلنا: إنّ عدد مَنْ كان مع الحسين 89 مقاتلاً، على أقلّ التقديرات التي رجَّحها الكاتب، واستثنينا منهم الأطفال والرضَّع، وكان نصيب كلّ واحدٍ منهم قتيلين، لكان عدد القتلى من الجيش الأمويّ يفوق ما قرَّره الكاتب! فكيف والروايات تشير أنهم ـ حسب السيد الأمين ـ كانوا حوالي 136 مقاتلاً([76]). وإذا أخذنا برأي الشيخ شمس الدين فإنّهم يقاربون المئة أو يبلغونها، وربما زادوا عليها([77]). وعليه إذا قلنا: إنّ كلّ واحدٍ منهم قتل شخصاً واحداً من الجيش الأمويّ فإنّ عدد قتلاهم سيزيد على ما ذكره الكاتب!
على أنّ كتب المقاتل، كـ (اللهوف)، و(مقتل الخوارزمي)، وغيرهما، تنسب إلى كثيرٍ من أبطال كربلاء أنهم قتلوا مجموعاتٍ من الجيش المقابل، وهو أمرٌ غير مستبعد بطبيعة الأحوال.