موضوع: فلسفة الدعاء عند الامام زين العابدين الخميس أكتوبر 27, 2016 3:49 pm
ليس إعتباطا أن يهتم الامام علي بن الحسين السجاد (ع) (أستشهد في 25 محرم الحرام) بالدعاء، فيترك لنا سفرا عظيما يشتمل على أنواع الأدعية، تخص حالات الانسان المختلفة وتغطي كل الأزمنة والمناسبات.
فهناك سر عظيم وراء فلسفة الدعاء، يمكن إكتشافه من خلال معرفة ما نتعلمه من الدعاء، الذي هو ليس كلام إنشائي أو لقلقة لسان أبدا، وإنما هو معارف عظيمة إذا ما تانى المرء في قراءتها والتدبر فيها.
إن الدعاء منظومة متكاملة بأدوات راقية يعلمنا:
*التواضع، فالذي يدعو ربه متواضعا له سبحانه، لا يتكبر على أحد من عباده، ولذلك ربط الله تعالى حالات الاستكبار والتكبر التي تصيب الانسان بحالة تمرده على الدعاء، فقال تعالى {وَقَالَ رَبُّكُمُ أدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} والعبادة هو الدعاء عن الكاظم (ع).
*الاستقلالية، فالذي يثق بربه وأن قدرته بين الكاف والنون لن يكون تبعا لأحد من أجل شيء ما، يقول أمير المؤمنين عليه السلام في وصيته الى إبنه الامام الحسن المجتبى (ع) {وَاعْلَمْ، أَنَّ الَّذِي بِيَدِهِ خَزَائِنُ السَّموَاتِ وَالاْرْضِ قَدْ أَذِنَ لَكَ فِي الدُّعَاءِ، وَتَكفَّلَ لَكَ بِالاْجَابَةِ،أَمَرَكَ أَنْ تَسْأَلَهُ لِيُعْطِيَكَ، وَتَسْتَرْحِمَهُ لِيَرْحَمَكَ، وَلَمْ يَجْعَلْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ مَنْ يَحْجُبُكَ عَنْهُ، وَلَمْ يُلْجِئْكَ إِلَى مَنْ يَشْفَعُ لَكَ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَمْنَعْكَ إِنْ أَسَأْتَ مِنَ التَّوْبَةِ، وَلَمْ يُعَاجِلْكَ بَالنِّقْمَةِ، وَلَمْ يُعَيِّرْكَ بِالاْنَابَةِ، وَلَمْ يَفْضَحْكَ حَيْثُ الْفَضِيحَةُ بِكَ أَوْلَى، وَلَمْ يُشدِّدْ عَلَيْكَ فِي قَبُولِ الاْنَابَةِ، وَلَمْ يُنَاقِشْكَ بِالْجَرِيمَةِ، وَلَمْ يُؤْيِسْكَ مِنَ الرَّحْمَةِ، بَلْ جَعَلَ نُزُوعَكَ عَنِ الذَّنْبِ حَسَنةً، وَحَسَبَ سَيِّئَتَكَ وَاحِدَةً، وَحَسَبَ حَسَنَتَكَ عَشْراً، وَفَتحَ لَكَ بَابَ الْمَتَابِ، فَإِذَا نَادَيْتَهُ سَمِعَ نِدَاك، وَإِذَا نَاجَيْتَهُ عَلِمَ نَجْوَاكَ} فهل أن من يدعو مثل هذا الرب يذل نفسه لغيره عز وجل؟ إلا أن يكون سفيها، ولذلك فان الداعي عزيز بربه وبأسمائه الحسنى، والى هذا المعنى أشار سيد الشهداء الحسين بن علي (ع) بقوله {هيهات منا الذلة يأبى الله لنا ذلك}.
*التوكل ورفض التواكل، وأن التوكل هو مفتاح النجاح، أما التواكل فهو رأس كل فشل، ولذلك قال أمير المؤمنين (ع) {الدعاء مفاتيح النجاح، ومقاليد الفلاح} وقوله {الدعاء مقاليد الفلاح ومصابيح النجاح} فالدعاء يهيئ كل فرص النجاح للمرء، وأن من يظن أن الدعاء يعني أن تجلس في بيتك وتنتظر الفرج أو فرص النجاح لتأتي اليك فإنه على خطأ، بل العكس هو الصحيح، فمن يتسلح بالدعاء يمتطي التوكل.
*العمل ورفض الكسل، فالدعاء يعطي للإنسان طاقة متجددة للحركة والنشاط، مثله كمثل الوقود في السيارة، فهو إيذان لل؛نطلاق والحركة وليس للتوقف والجمود، ولقد قال أمير المؤمنين (ع) {أحب الأعمال الى الله في الأرض الدعاء} وقول رسول الله (ص) {إن أعجز الناس من عجز عن الدعاء} لأن من لا يقدر على الدعاء كيف يقدر على العمل؟ ولذلك قال الكاظم (ع) {الدعاء ترس المؤمن} فهو لساحة الجد والعمل.
*التفكير والتفكر، ولذلك وصفه رسول الله (ص) بقوله {الدعاء مخ العبادة} فكل عبادة لا تعتمد الدعاء ستكون لقلقة لسان أو ترداد لكلمات غير ذي معنى، لأن المعاني السامية في الدعاء تحث المرء على التفكير والتفكر، سواء في خلق الله تعالى أو في أمور الحياة وفيما ينتظره في الحياة الاخرة كون {الدنيا مزرعة الاخرة} كما ورد في الحديث الشريف.
*الايمان والثقة بالله تعالى، لأن الانسان الذي يدعو الله تعالى كثيرا يكون الأقرب اليه، ومن كان قريبا من الله إبتعد عنه الشيطان، ولهذا قال أمير المؤمنين (ع) {أكثر من الدعاء تسلم من سورة الشيطان} فالشيطان لا يدخل قلبا عامرا بالايمان الذي يزرعه الدعاء، فبه يزداد يقينا بربه، وبه يزداد ثقة بنفسه.
*الأمل، فالدعاء يذكرك بأنه ما من شيء غير قابل للتغيير، ما يطرد عنك اليأس بكل أشكاله، والى هذا المعنى قال الصادق (ع) {لا تقل أن الأمر قد فرغ منه، إن عند الله منزلة لا تنال الا بمسألة} وعنه (ع) في قول آخر {أدع الله عز وجل ولا تقل: إن الأمر قد فرغ منه} قال زرارة؛ إنما يعني: لا يمنعك إيمانك بالقضاء والقدر أن تبالغ بالدعاء وتجتهد فيه، وصدق أمير المؤمنين (ع) الذي لخص فلسفة الأمل والرجاء في قوله {مَا كَانَ اللهُ لِيَفْتَحَ عَلَى عَبْد بَابَ الشُّكْرِ وَيُغْلِقَ عَنْهُ بَابَ الزِّيَادَةِ، وَلاَ لِيَفْتَحَ عَلَى عَبْد بَابَ الدُّعَاءِ وَيُغْلِقَ عَنْهُ بَابَ الاْجَابَةِ، وَلاَ لِيَفْتَحَ عَلَى عَبْد بَابَ التَّوْبَةِ وَيُغْلِقَ عَنْهُ بَابَ الْمَغْفِرَة}.
*النجاح وسبله وطرقه، لأن من يناجي ربه في كل آن يفتح الله له أبواب رحمته فيبصره طريقه ولذلك فليس غريبا أبدا أن يصف الامام الصادق (ع) أمير المؤمنين (ع) بقوله {كان أمير المؤمنين رجل دعاء} فعلى الرغم من قربه عليه السلام من ربه، الا أنه ظل يدعوه تضرعا وخيفة وحين الجهر، ولذلك سدده الله تعالى وبصره طرق المعرفة والنجاح حتى قال (ع) {علمني رسول الله ألف باب من العلم يفتح من كل باب ألف باب} فكان {علي مع الحق والحق مع علي، لا يفترقان حتى يردا علي الحوض}.
*العلم والمعرفة، فالدعاء، وهو حديث العبد مع ربه عز وجل، يلهم المرء بصائر ومعارف ما كان ليكسبها بغيره، فلقد ورد عن أمير المؤمنين (ع) قوله {أعلم الناس بالله سبحانه آكثرهم له مسألة}.
*التواضع، فكلما تذكر العبد ربه في الدعاء كلما رفعه الله تعالى درجة تواضع بقدرها في الناس، والمتكبر هو الذي لا يذكر ربه، فكيف يذكر عباده؟ ولا يتواضع لربه، لأنه يرى نفسه مستغنيا عنه، فكيف يتواضع لعباده؟ والمتكبر هو الذي أنساه الله تعالى نفسه لأنه نسيه كما ذكرت الآية الكريمة {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.
*الرقابة الذاتية ومحاسبة الذات، لأن الدعاء عنصر أساسي في تصحيح الأخطاء وإعادة النظر في الذنوب التي يرتكبها المرء، ولذلك، فكلما دعا المرء ربه كلما سعى لتصحيح مساراته الحياتية لتكون على الصراط المستقيم، ولذلك، قال أمير المؤمنين (ع) لقائل قال بحضرته: أستغفر الله {ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، أَتَدْرِي مَا الاْسْتِغْفَارُ؟ إنَّ الاْسْتِغْفَارَ دَرَجَةُ الْعِلِّيِّينَ، وَهُوَ إسْمٌ وَاقِعٌ عَلَى سِتَّةِ مَعَان: أَوَّلُهَا: النَّدَمُ عَلَى مَا مَضَى وَالثَّانِي: الْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ الْعَوْدِ إِلَيْهِ أَبَداً وَالثَّالِثُ: أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى الْـمَخْلُوقِينَ حُقُوقَهُمْ حَتَّى تَلْقَى اللهَ عزّوجلّ أَمْلَسَ لَيْسَ عَلَيْكَ تَبِعَةٌ وَالرَّابِعُ: أَنْ تَعْمِدَ إِلَى كُلِّ فَرِيضَة عَلَيْكَ ضَيَّعْتَهَا فَتُؤَدِّيَ حَقَّهَا وَالْخَامِسُ: أَنْ تَعْمِدَ إِلَى اللَّحْمِ الَّذِي نَبَتَ عَلَى السُّحْتِ فَتُذِيبَهُ بالاْحْزَانِ، حَتَّى يَلْصِقَ الْجِلْدُ بِالْعَظْمِ، وَيَنْشَأَ بَيْنَهُمَا لَحْمٌ جَدِيدٌ وَالسَّادِسُ: أَنْ تُذِيقَ الْجِسْمَ أَلَمَ الطَّاعَةِ كَمَا أَذَقْتَهُ حَلاَوَةَ الْمَعْصِيَةِ، فَعِنْدَ ذلِكَ تَقُولُ: أَسْتَغْفِرُاللهَ}.
*القوة، فالدعاء يمنح المرء قوة وشجاعة وعزيمة، فهو سلاحه في الحياة، ولذلك وصفه رسول الله (ص) بالسلاح بقوله {الا أدلكم على سلاح ينجيكم من أعدائكم ويدر أرزاقكم؟ قالوا: بلا يا رسول الله، قال: تدعون ربكم بالليل والنهار، فإن سلاح المؤمن الدعاء} وقول أمير المؤمنين (ع) {نعم السلاح الدعاء}.
*الوفاء، فمن يواضب على الدعاء يكون وفيا مع القيم التي يذكرها على لسانه ويتفاعل معها قلبه، كالصدق والأمانة والشجاعة وحسن الظن والعدل والانصاف والعلم والمعرفة وغيرها.
*إستصغار أعاظم الأمور، فالذي يدعو ربه، وهو على يقين بأنه قادر على أن يعطيه مهما عظم الأمر في عينيه، سيستصغرها وبالتالي سيتعامل مع أمور الحياة ببساطة ويسر، فلا يستعظم الأمور ولا يعقدها، وبالتالي سيكون الأقدر عليها من خلال حسن التعامل معها، وإن الذي يرشده الى ذلك الدعاء.
* وأخيرا، ضد الغفلة، فالدعاء، الذي يحتم على المرء أن يستحضر قلبه، لا يغفل عن ربه وعن مجتمعه وعن ممن حوله من الناس، فتراه دقيقا وحذرا في كلامه وفي عمله وفي سلوكياته، لا يتجاوز على أحد، ولا يعتدي على أحد، لا بقول ولا بفعل، ولنتذكر حديث رسول الله (ص) {ترك الدعاء معصية}.